الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

النسب النبوي الشريف

النسب النبوي الشريف

النسب النبوي الشريف

اقتضت وجرت حكمة الله تعالى أن يكون الأنبياء والرسل من ذوي الأنساب الأصيلة، ونبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه كان في الذروة من ذلك، قال القاضي عياض: "اعلم - وفقنا الله وإياك أن صفات جميع الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ من كمال الخلق، وحسن الصورة، وشرف النسب، وحسن الخُلق، وجميع المحاسن، هي هذه الصفة، لأنها صفات الكمال. والكمال والتمام البشري والفضل الجميع لهم صلوات الله عليهم، إذ رتبتهم أشرف الرتب، ودرجاتهم أرفع الدرجات، ولكن فضل الله بعضهم على بعض، قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}(البقرة:253)"، قال السعدي: "فمنهم (من الأنبياء) من كلمه الله كموسى بن عمران خصَّه بالكلام، ومنهم من رفعه على سائرهم درجات كنبينا صلى الله عليه وسلم الذي اجتمع فيه من الفضائل ما تفرق في غيره، وجمع الله له من المناقب ما فاق به الأولين والآخرين".

نسب النبي صلى الله عليه وسلم :
وُلِدَ النبي صلى الله عليه وسلم ونشأ وبُعِث في أمة تعتز بالأنساب، إذ بها يُعرفون، وبها يفتخرون، ونسب نبينا صلى الله عليه وسلم من الشرف أعلى ذروة، وقد شهد له بذلك عدوه أبو سفيان بين يدي هرقل ملك الروم، فقد ذكر البخاري في صحيحه حديث هرقل مع أبي سفيان ـ قبل إسلامه ـ وأنه سأله عن نسب النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (كيف نسبه فيكم؟ فقال أبو سفيان: هو فينا ذو نسب). فهو صلوات الله وسلامه عليه: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وقد أخرج البخاري في صحيحه هذا القدْر من نسبه الشريف صلى الله عليه وسلم في كتاب مناقب الأنصار: باب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم.
وذكر ابن القيم في "زاد المعاد" نسب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "وهو خير أهل الأرض نسباً على الإطلاق، فلنسبه من الشرف أعلى ذروة، وأعداؤه كانوا يشهدون له بذلك، ولهذا شهد له به عدوه إذ ذاك أبو سفيان بين يدي ملك الروم، فأشرف القوم قومه، وأشرف القبائل قبيلته، وأشرف الأفخاذ فخذه (أشرف فرع من عَشِيرته فرعه). فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.. إلى هاهنا معلوم الصحة متفق عليه بين النسَّابين، ولا خلاف فيه البتة، وما فوق "عدنان" مختلف فيه. ولا خلاف بينهم أن "عدنان" من ولد إسماعيل عليه السلام، وإسماعيل: هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجها، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: "هذا القول إنما هو مُتلقَى عن أهل الكتاب، مع أنه باطل بنص كتابهم، فإن فيه: إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره، وفي لفظ: وحيده، ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر (أول) أولاده، والذي غرَّ أصحاب هذا القول أن في التوراة التي بأيديهم: اذبح ابنك إسحاق، قال: وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم".

أصالة نسب النبي صلى الله عليه وسلم :
اختار الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من خير القرون، وأزكى القبائل، وأفضل البطون فكان صلى الله عليه وسلم أعظم قومه نسباً وشرفاً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرْناً، حتى كنتُ من القَرْن الذي كنت منه) رواه البخاري. قال القاضي عياض: "وأما شرف نسبه، وكرم بلده، ومنشؤه فمما لا يحتاج إلى إقامة دليل عليه، ولا بيان مشكل، ولا خفي منه، فإنه نخبة بني هاشم، وسلالة قريش وصميمها، وأشرف العرب، وأعزهم نفرا من قِبَل أبيه وأمه ومن أهل مكة من أكرم بلاد الله على الله وعلى عباده". وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) رواه مسلم. وعن المطلب بن أبي وداعة رضي الله عنه قال: جاء العباس رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه سمع شيئا، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال: (من أنا؟ قالوا: أنت رسول الله عليك السلام، فقال صلى الله عليه وسلم: أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق، فجعلني في خيرهم ثم جعلهم فرقتين، فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل، فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا، فجعلني في خيرهم بيتا، فأنا خيركم بيتا، وخيركم نفسا) رواه أحمد وصححه الألباني.

فائدة :
من المعلوم أن ميزان الإسلام للناس لا ينظر إلى الفوارق في اللون والجنس والنسب، ولا يرجع إلى الجاه والمال والمنصب، فالناس كلهم لآدم، وآدم خُلِقَ من تراب، وإنما التفاضل فيه بتقوى الله والعمل الصالح, كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}(الحجرات:13)، قال ابن تيمية: "ولهذا ليس في كتاب الله آية واحدة يَمْدَحُ فِيهَا أَحَدًا بنَسبه، ولا يَذُمُّ أَحَدًا بِنَسَبِه، وإنما يمدح الإيمانَ والتقوى، ويذم بالكفر والفسوق والعصيان". وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط أيام التشريق في حجة الوداع، فقال: أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، إنَّ أكرمَكم عند الله أتقاكم، ألا هل بلَّغتُ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فليُبلِغِ الشَّاهدُ الغائبَ) رواه أحمد وصححه الألباني.
ومع ذلك الميزان والمعنى الصحيح فعلو النسب والشرف إذا قارنه العمل والتقوى لم يبلغه شيء في المكانة، ولذلك لما سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم وقيل له: (يا رسول الله من أكرم النّاس؟ قال: أتقاهم، فقالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فيوسف نبيّ الله، ابن نبيّ الله، ابن نبيّ الله، ابن خليل الله، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فعن معادن العرب تسألون؟ خيارهم في الجاهليّة خيارهم في الإسلام إذا فَقُهُوا) رواه البخاري. قال السيوطي: " قال العلماء: لما سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أكرم؟ أخبر بأكمل الكرم وأعمه فقال: أتقاهم، وأصل الكرم كثرة الخير، ومن كان متقيا كان كثير الخير وكثير الفائدة في الدنيا وصاحب الدرجات العلى في الآخرة، فلما قالوا ليس عن هذا نسألك أخبرهم بيوسف لأنه قد جمع مكارم الأخلاق مع شرف النبوة مع شرف النسب، وكونه نبياً بن ثلاثة أنبياء أحدهم خليل الله".

وقال ابن عثيمين: قوله من أكرم الناس؟ قال أتقاهم، أي: أكرم الناس أتقاهم لله عز وجل، وهذا الجواب مطابق تماماً لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}(الحجرات:13)، فالله سبحانه لا ينظر إلى الناس من حيث النسب ولا من حيث الحسب، ولا من حيث المال ولا من حيث الجمال، وإنما ينظر سبحانه إلى الأعمال، فأكرم الناس عنده أتقاهم إليه، ولهذا يمد أهل التقوى بما يمدهم به من الكرامات الظاهرة أو الباطنة لأنهم أكرم خلقه عنده، ففي هذا حث على تقوى الله عز وجل وأنه كلما كان الإنسان أتقى لله فهو أكرم عنده، ولكن الصحابة لا يريدون بهذا السؤال الأكرم عند الله، قالوا: لسنا عن هذا نسألك، ثم ذكر لهم أن أكرم الخلق يوسف ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله، فهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فإنه عليه الصلاة والسلام كان نبياً من سلالة الأنبياء، فكان من أكرم الخلق، قالوا: لسنا عن هذا نسألك، قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ معادن العرب يعني أصولهم وأنسابهم، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، يعني أن أكرم الناس من حيث النسب والمعادن والأصول هم الخيار في الجاهلية لكن بشرط إذا فقهوا، فمثلا بنو هاشم من المعروف هم خيار قريش، فيكونون هم خيارهم في الإسلام لكن بشرط أن يفقهوا في دين الله وأن يتعلموا من دين الله، فإن لم يكونوا فقهاء فإنهم وإن كانوا من خيار العرب معدنا فإنهم ليسوا أكرم الخلق عند الله، وليسوا خيار الخلق، ففي هذا دليل على أن الإنسان يشرف بنسبه لكن بشرط أن يكون له فقه في دينه، ولاشك أن النسب له أثر، ولهذا كان بنو هاشم أطيب الناس وأشرفهم نسبا، ومن ثم كان منهم النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أشرف الخلق".

ولم يزل صلوات الله وسلامه عليه يتنقل من أصلاب الآباء الطاهرين إلى أرحام الأمهات الطاهرات لم يمس نسبه الشريف شيء من سفاح وأدران الجاهلية، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، لم يصبني من سفاح الجاهلية شيء) رواه الطبراني وحسنه الألباني.
حفظَ الإلهُ كرامةً لمحمدٍ آباءه الأمجاد صوناً لاسمهِ
تركوا السفاحَ فلم يصبهم عاره من آدم وإلى أبيه وأمه
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع خيرية وعلو وشرف نسبه، فقد بعث في خير القرون، وهكذا التقت خيرية وشرف نسبه، مع أفضلية وخيرية زمانه، مع أفضليته على جميع الخلق والأنبياء، قال الله تعالى: {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}(الأنعام:124)، قال ابن كثير في تفسيره: "أي: هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه.. وقال تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}(الْأَنْعَامِ:10)، هذا وهم يعترفون بفضله وشرفه ونسبه، وطهارة بيته ومرباه ومنشئه، حتى أنهم كانوا يسمونه بينهم قبل أن يُوحَى إليه: "الأمين"، وقد اعترف بذلك أبو سفيان حين سأله هرقل ملك الروم: كيف نسبه فيكم؟ قال: هو فينا ذو نسب".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة