[ ص: 60 ] nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=1nindex.php?page=treesubj&link=29039_28726والقلم وما يسطرون nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=2ما أنت بنعمة ربك بمجنون nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=3وإن لك لأجرا غير ممنون nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=4وإنك لعلى خلق عظيم يجري القسم هنا على سنن الأقسام الصادرة في كلام الله تعالى أن تكون بأشياء معظمة دالة على آثار صفات الله تعالى .
والقلم المقسم به قيل هو ما يكنى عنه بالقلم من تعلق علم الله بالموجودات الكائنة والتي ستكون ، أو هو كائن غيبي لا يعلمه إلا الله . وعن
مجاهد وقتادة : أنه القلم الذي في قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=4الذي علم بالقلم nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=5علم الإنسان ما لم يعلم . قلت : وهذا هو المناسب لقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=1وما يسطرون في الظاهر وهو الذي يقتضيه حال المشركين المقصودين بالخطاب الذين لا يعرفوا إلا القلم الذي هو آلة الكتابة عند أهل الكتاب وعند الذين يعرفون الكتابة من العرب .
ومن فوائد هذا القسم أن هذا القرآن كتاب الإسلام ، وأنه سيكون مكتوبا مقروءا بين المسلمين ، ولهذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر أصحابه بكتابة ما يوحى به إليه . وتعريف ( القلم ) تعريف الجنس .
nindex.php?page=treesubj&link=28904فالقسم بالقلم لشرفه بأنه يكتب به القرآن وكتبت به الكتب المقدسة وتكتب به كتب التربية ومكارم الأخلاق والعلوم وكل ذلك مما له حظ شرف عند الله تعالى .
وهذا يرجحه أن الله نوه بالقلم في أول سورة نزلت من القرآن لقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=3اقرأ وربك الأكرم nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=4الذي علم بالقلم nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=5علم الإنسان ما لم يعلم .
و (
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=1ما يسطرون ) هي السطور المكتوبة بالقلم و ( ما ) يجوز أن تكون موصولة ، أي وما يكتبونه من الصحف ، ويجوز أن تكون مصدرية . والمعنى : وسطرهم الكتابة سطورا .
ويجوز أن يكون قسما بالأقلام التي يكتب بها كتاب الوحي القرآن ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=1وما يسطرون ) قسما بكتابتهم ، فيكون قسما بالقرآن على أن القرآن ما هو بكلام مجنون
[ ص: 61 ] كما تقدم في قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=2والكتاب المبين nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=3إنا جعلناه قرآنا عربيا في سورة الزخرف . وتنظيره بقول
أبي تمام : وثناياك إنها إغريض . . . البيت . ويسطرون : مضارع سطر ، يقال : سطر من باب نصر ، إذا كتب كلمات عدة تحصل منها صفوف من الكتابة . وأصله مشتق من السطر وهو القطع ؛ لأن صفوف الكتابة تبدو كأنها قطع .
وضمير ( يسطرون ) راجع إلى غير مذكور في الكلام وهو معلوم للسامعين ؛ لأن ذكر القلم ينبئ بكتبة يكتبون به فكان لفظ القسم متعلقا بآلة الكتابة والكتابة ، والمقصود : المكتوب في إطلاق المصدر على المفعول . فهو بمنزلة الفعل المبني للمجهول ؛ لأن الساطرين غير معلومين ، فكأنه قيل : والمسطور ، نظير قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=2وكتاب مسطور nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=3في رق منشور .
ومن فسر ( القلم ) بمعنى تعلق علم الله تعالى بما سيكون جعل ضمير ( يسطرون ) راجعا إلى الملائكة فيكون السطر رمزا لتنفيذ الملائكة ما أمر الله بتنفيذه حين تلقي ذلك ، أي يكتبون ذلك للعمل به أو لإبلاغه من بعضهم إلى بعض على وجه لا يقبل الزيادة ولا النقصان ، فشبه ذلك الضبط بضبط الكاتب ما يريد إبلاغه بدون تغيير .
وأوثر
nindex.php?page=treesubj&link=28904القسم بالقلم والكتابة للإيماء إلى أن باعث الطاعنين على الرسول - صلى الله عليه وسلم - واللامزين له بالجنون ، إنما هو ما أتاهم به من الكتاب .
والمقسم عليه نفي أن يكون النبيء - صلى الله عليه وسلم - مجنونا والخطاب له بهذا تسلية له لئلا يحزنه قول المشركين لما دعاهم إلى الإسلام : هو مجنون ، وذلك ما شافهوا به النبيء - صلى الله عليه وسلم - وحكاه الله عنهم في آخر السورة
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=51وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون . وهكذا كل ما ورد فيه نفي صفة الجنون عنه فإنما هو رد على أقوال المشركين كقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=81&ayano=22وما صاحبكم بمجنون . وقد زل فيه صاحب الكشاف زلة لا تليق بعلمه .
والمقصود من نفي الجنون عنه إثبات ما قصد المشركون نفيه وهو أن يكون
[ ص: 62 ] رسولا من الله لأنهم لما نفوا عنه صفة الرسالة وضعوا موضعها صفة الجنون ، فإذا نفي ما زعموه فقد ثبت ما ادعاه .
وقد أجيب قولهم وتأكيدهم ذلك بحرف ( إن ) ولام الابتداء إذ قالوا
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=51إنه لمجنون بمؤكدات أقوى مما في كلامهم إذ أقسم عليه وجيء بعد النفي بالباء التي تزاد بعد النفي لتأكيده ، وبالجملة الاسمية منفية لدلالة الجملة الاسمية على ثبات الخبر ، أي تحققه فهذه ثلاثة مؤكدات .
وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=2بنعمة ربك جعله في الكشاف حالا من الضمير الذي في ( مجنون ) المنفي . والتقدير : انتفى وصف المجنون بنعمة ربك عليك . والباء للملابسة أو السببية ، أي بسبب إنعام الله إذ برأك من النقائص . والذي أرى أن تكون جملة معترضة ، وأن الباء متعلقة بمحذوف يدل عليه المقام وتقديره : أن ذلك بنعمة ربك ، على نحو ما قيل في تعلق الباء في قوله ( باسم الله ) وهو الذي يقتضيه استعمالهم كقول الحماسي
الفضل بن عباس اللهبي :
كل له نية في بغض صاحبه بنعمة الله نقليكم وتقلـونـا
وذهب
nindex.php?page=showalam&ids=12671ابن الحاجب في أماليه أن (
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=2بنعمة ربك ) متعلق بما يتضمنه حرف ( ما ) النافية من معنى الفعل وقدره : انتفى أن تكون مجنونا بنعمة ربك . ولا يصح تعلقه بقوله ( مجنون ) إذ لو علق به لأوهم نفي جنون خاص وهو الجنون الذي يكون من نعمة الله وليس ذلك بمستقيم . واستحسن هذا
ابن هشام في مغني اللبيب في الباب الثالث لولا أنه مخالف لاتفاق النحاة على عدم صحة تعلق الظرف بالحرف ولم يخالفهم في ذلك إلا
أبو علي وأبو الفتح في خصوص تعلق المجرور والظرف بمعنى الحرف النائب عن فعل مثل حرف النداء في قولك : يا لزيد يريد في الاستغاثة ، وتقدم نظيره في قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=29فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون في سورة الطور .
ولما ثبت الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - فدفع بهتان أعدائه أعقبه بإكرامه بأجر عظيم على ما لقيه من المشركين من أذى بقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=3وإن لك لأجرا غير ممنون بقرينة وقوعه عقب قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=2ما أنت بنعمة ربك بمجنون ، مؤكدا ذلك بحرف ( إن ) وبلام الابتداء وبتقديم المجرور وهو في قوله لك .
[ ص: 63 ] وهذا الأجر هو ثواب الله في الآخرة وعناية الله به ونصره في الدنيا .
و ( ممنون ) يجوز أن يكون مشتقا من من المعطي على المعطى إذا عد عليه عطاءه وذكره له ، أو افتخر عليه به فإن ذلك يسوء المعطى ، قال
النابغة :
علي لعمرو نعمة بعد نعمة لوالده ليست بذات عقارب
أي ليس فيها أذى ، والمن من الأذى قال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=264يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى .
وقد انتزع من هذه الآية
عبد الله بن الزبير بكسر الموحدة أو غيره في قوله :
أيادي لم تمنن وإن هي جلت
قبله :
سأشكر عمرا إن تراخت منيتي
ومراده
nindex.php?page=showalam&ids=5947عمرو بن سعيد المعروف
بالأشدق . ويجوز أن يكون ( ممنون ) مشتقا من قولهم : من الحبل ، إذا قطعه ، أي أجرا غير مقطوع عنك ، وهو الثواب المتزايد كل يوم ، أو أجرا أبديا في الآخرة ، ولهذا كان لإيثار كلمة ( ممنون ) هنا من الإيجاز بجمع معنيين بخلاف قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=108عطاء غير مجذوذ في سورة هود ؛ لأن ما هنا تكرمة للرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وبعد أن آنس نفس رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالوعد عاد إلى تسفيه قول الأعداء فحقق أنه متلبس بخلق عظيم وذلك ضد الجنون مؤكدا ذلك بثلاثة مؤكدات مثل ما في الجملة قبله .
والخلق : طباع النفس ، وأكثر إطلاقه على طباع الخير إذا لم تتبع بنعت ، وقد تقدم عند قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=137إن هذا إلا خلق الأولين في سورة الشعراء .
والعظيم : الرفيع القدر وهو مستعار من ضخامة الجسم ، وشاعت هذه الاستعارة حتى ساوت الحقيقة .
و ( على ) للاستعلاء المجازي المراد به التمكن كقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=5أولئك على هدى من ربهم ومنه قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=79إنك على الحق المبين ،
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=43إنك على صراط مستقيم ،
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=67إنك لعلى هدى مستقيم .
[ ص: 64 ] وفي حديث
عائشة أنها
nindex.php?page=hadith&LINKID=2002709سئلت عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : كان خلقه القرآن أي ما تضمنه القرآن من إيقاع الفضائل والمكارم والنهي عن أضدادها .
والخلق العظيم : هو الخلق الأكرم في نوع الأخلاق وهو البالغ أشد الكمال المحمود في طبع الإنسان لاجتماع مكارم الأخلاق في النبيء - صلى الله عليه وسلم - فهو حسن معاملته الناس إلى اختلاف الأحوال المقتضية لحسن المعاملة ، فالخلق العظيم أرفع من مطلق الخلق الحسن .
ولهذا قالت
عائشة كان خلقه القرآن ، ألست تقرأ
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=1قد أفلح المؤمنون الآيات العشر . وعن
علي الخلق العظيم : هو أدب القرآن ويشمل ذلك كل ما وصف به القرآن محامد الأخلاق وما وصف به النبيء - صلى الله عليه وسلم - من نحو قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=159فبما رحمة من الله لنت لهم وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=199خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وغير ذلك من آيات القرآن . وما أخذ به من الأدب بطريق الوحي غير القرآن قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
nindex.php?page=hadith&LINKID=2002710إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ، فجعل أصل شريعته إكمال ما يحتاجه البشر من مكارم الأخلاق في نفوسهم ، ولا شك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكبر مظهر لما في شرعه قال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=18ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها وأمره أن يقول
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=163وأنا أول المسلمين .
فكما جعل الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - على خلق عظيم جعل شريعته لحمل الناس على التخلق بالخلق العظيم بمنتهى الاستطاعة .
وبهذا يزداد وضوحا معنى التمكن الذي أفاده حرف الاستعلاء في قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=4وإنك لعلى خلق عظيم فهو متمكن منه الخلق العظيم في نفسه ، ومتمكن منه في دعوته الدينية .
واعلم أن جماع الخلق العظيم الذي هو أعلى الخلق الحسن هو التدين ، ومعرفة الحقائق ، وحلم النفس ، والعدل ، والصبر على المتاعب ، والاعتراف للمحسن ، والتواضع ، والزهد ، والعفة ، والعفو ، والجمود ، والحياء ، والشجاعة ، وحسن الصمت ، والتؤدة ، والوقار ، والرحمة ، وحسن المعاملة والمعاشرة .
والأخلاق كامنة في النفس ومظاهرها تصرفات صاحبها في كلامه ، وطلاقة
[ ص: 65 ] وجهه ، وثباته ، وحكمه ، وحركته وسكونه ، وطعامه وشرابه ، وتأديب أهله ، ومن لنظره ، وما يترتب على ذلك من حرمته عند الناس ، وحسن الثناء عليه والسمعة .
وأما مظاهرها في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففي ذلك كله وفي سياسيته أمته ، وفيما خص به من فصاحة كلامه وجوامع كلمه .
[ ص: 60 ] nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=1nindex.php?page=treesubj&link=29039_28726وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=2مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=3وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=4وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ يَجْرِي الْقَسَمُ هُنَا عَلَى سُنَنِ الْأَقْسَامِ الصَّادِرَةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ تَكُونَ بِأَشْيَاءٍ مُعَظَّمَةٍ دَالَّةٍ عَلَى آثَارِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَالْقَلَمُ الْمُقْسَمُ بِهِ قِيلَ هُوَ مَا يُكَنَّى عَنْهُ بِالْقَلَمِ مِنْ تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ بِالْمَوْجُودَاتِ الْكَائِنَةِ وَالَّتِي سَتَكُونُ ، أَوْ هُوَ كَائِنٌ غَيْبِيٌّ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ . وَعَنْ
مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةٍ : أَنَّهُ الْقَلَمُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=4الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=5عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ . قُلْتُ : وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=1وَمَا يَسْطُرُونَ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ حَالُ الْمُشْرِكِينَ الْمَقْصُودِينَ بِالْخِطَابِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُوا إِلَّا الْقَلَمَ الَّذِي هُوَ آلَةُ الْكِتَابَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعِنْدَ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْكِتَابَةَ مِنَ الْعَرَبِ .
وَمِنْ فَوَائِدَ هَذَا الْقَسَمُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ كِتَابُ الْإِسْلَامِ ، وَأَنَّهُ سَيَكُونُ مَكْتُوبًا مَقْرُوءًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِكِتَابَةِ مَا يُوحَى بِهِ إِلَيْهِ . وَتَعْرِيفُ ( الْقَلَمِ ) تَعْرِيفُ الْجِنْسِ .
nindex.php?page=treesubj&link=28904فَالْقَسَمُ بِالْقَلَمِ لِشَرَفِهِ بِأَنَّهُ يُكْتَبُ بِهِ الْقُرْآنُ وَكُتِبَتْ بِهِ الْكُتُبُ الْمُقَدَّسَةُ وَتُكْتَبُ بِهِ كُتُبُ التَّرْبِيَةِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالْعُلُومِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا لَهُ حَظُّ شَرَفٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَهَذَا يُرَجِّحُهُ أَنَّ اللَّهَ نَوَّهُ بِالْقَلَمِ فِي أَوَّلِ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ لِقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=3اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=4الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=5عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ .
وَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=1مَا يَسْطُرُونَ ) هِيَ السُّطُورُ الْمَكْتُوبَةُ بِالْقَلَمِ وَ ( مَا ) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً ، أَيْ وَمَا يَكْتُبُونَهُ مِنَ الصُّحُفِ ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً . وَالْمَعْنَى : وَسَطْرِهِمُ الْكِتَابَةَ سُطُورًا .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَسَمًا بِالْأَقْلَامِ الَّتِي يَكْتُبُ بِهَا كُتَّابُ الْوَحْيِ الْقُرْآنَ ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=1وَمَا يَسْطُرُونَ ) قَسَمًا بِكِتَابَتِهِمْ ، فَيَكُونُ قَسَمًا بِالْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَا هُوَ بِكَلَامِ مَجْنُونٍ
[ ص: 61 ] كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=2وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=3إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ . وَتَنْظِيرُهُ بِقَوْلِ
أَبِي تَمَّامٍ : وَثَنَايَاكِ إِنَّهَا إِغْرِيضٌ . . . الْبَيْتَ . وَيَسْطُرُونَ : مُضَارِعُ سَطَرَ ، يُقَالُ : سَطَرَ مِنْ بَابِ نَصَرَ ، إِذَا كَتَبَ كَلِمَاتٍ عِدَّةٍ تَحْصُلُ مِنْهَا صُفُوفٌ مِنَ الْكِتَابَةِ . وَأَصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّطْرِ وَهُوَ الْقَطْعُ ؛ لِأَنَّ صُفُوفَ الْكِتَابَةِ تَبْدُو كَأَنَّهَا قِطَعٌ .
وَضَمِيرُ ( يَسْطُرُونَ ) رَاجِعٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ وَهُوَ مَعْلُومٌ لِلسَّامِعِينَ ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْقَلَمِ يُنْبِئُ بِكَتَبَةٍ يَكْتُبُونَ بِهِ فَكَانَ لَفْظُ الْقَسَمِ مُتَعَلِّقًا بِآلَةِ الْكِتَابَةِ وَالْكِتَابَةِ ، وَالْمَقْصُودُ : الْمَكْتُوبُ فِي إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ . فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ ؛ لِأَنَّ السَّاطِرِينَ غَيْرُ مَعْلُومِينَ ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ : وَالْمَسْطُورِ ، نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=2وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=3فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ .
وَمَنْ فَسَّرَ ( الْقَلَمِ ) بِمَعْنَى تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا سَيَكُونُ جَعَلَ ضَمِيرَ ( يَسْطُرُونَ ) رَاجِعًا إِلَى الْمَلَائِكَةِ فَيَكُونُ السَّطْرُ رَمْزًا لِتَنْفِيذِ الْمَلَائِكَةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِتَنْفِيذِهِ حِينَ تَلَقِّي ذَلِكَ ، أَيْ يَكْتُبُونَ ذَلِكَ لِلْعَمَلِ بِهِ أَوْ لِإِبْلَاغِهِ مِنْ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَلَا النُّقْصَانَ ، فَشُبِّهَ ذَلِكَ الضَّبْطُ بِضَبْطِ الْكَاتِبِ مَا يُرِيدُ إِبْلَاغَهُ بِدُونِ تَغْيِيرٍ .
وَأُوثِرَ
nindex.php?page=treesubj&link=28904الْقَسَمُ بِالْقَلَمِ وَالْكِتَابَةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ بَاعِثَ الطَّاعِنِينَ عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاللَّامِزِينَ لَهُ بِالْجُنُونِ ، إِنَّمَا هُوَ مَا أَتَاهُمْ بِهِ مِنَ الْكِتَابِ .
وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيءُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَجْنُونًا وَالْخِطَابُ لَهُ بِهَذَا تَسْلِيَةً لَهُ لِئَلَّا يُحْزِنَهُ قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ : هُوَ مَجْنُونٌ ، وَذَلِكَ مَا شَافَهُوا بِهِ النَّبِيءَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي آخِرِ السُّورَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=51وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ . وَهَكَذَا كُلُّ مَا وَرَدَ فِيهِ نَفْيُ صِفَةِ الْجُنُونِ عَنْهُ فَإِنَّمَا هُوَ رَدٌّ عَلَى أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ كَقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=81&ayano=22وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ . وَقَدْ زَلَّ فِيهِ صَاحِبُ الْكَشَّافِ زَلَّةً لَا تَلِيقُ بِعِلْمِهِ .
وَالْمَقْصُودُ مِنْ نَفْيِ الْجُنُونِ عَنْهُ إِثْبَاتُ مَا قَصَدَ الْمُشْرِكُونَ نَفْيَهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ
[ ص: 62 ] رَسُولًا مِنَ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَفَوْا عَنْهُ صِفَةَ الرِّسَالَةِ وَضَعُوا مَوْضِعَهَا صِفَةَ الْجُنُونِ ، فَإِذَا نُفِيَ مَا زَعَمُوهُ فَقَدْ ثَبَتَ مَا ادَّعَاهُ .
وَقَدْ أُجِيبَ قَوْلُهُمْ وَتَأْكِيدُهُمْ ذَلِكَ بِحَرْفِ ( إِنَّ ) وَلَامِ الْابْتِدَاءِ إِذْ قَالُوا
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=51إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ بِمُؤَكِّدَاتٍ أَقْوَى مِمَّا فِي كَلَامِهِمْ إِذْ أُقْسِمَ عَلَيْهِ وَجِيءَ بَعْدَ النَّفْيِ بِالْبَاءِ الَّتِي تُزَادُ بَعْدَ النَّفْيِ لِتَأْكِيدِهِ ، وَبِالْجُمْلَةِ الْاسْمِيَّةِ مَنْفِيَّةً لِدَلَالَةِ الْجُمْلَةِ الْاسْمِيَّةِ عَلَى ثَبَاتِ الْخَبَرِ ، أَيْ تَحَقُّقِهِ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مُؤَكِّدَاتٍ .
وَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=2بِنِعْمَةِ رَبِّكَ جَعَلَهُ فِي الْكَشَّافِ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي ( مَجْنُونٍ ) الْمَنْفِيِّ . وَالتَّقْدِيرُ : انْتَفَى وَصْفُ الْمَجْنُونِ بِنِعْمَةِ رَبِّكِ عَلَيْكَ . وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ أَوِ السَّبَبِيَّةِ ، أَيْ بِسَبَبِ إِنْعَامِ اللَّهِ إِذْ بَرَّأَكَ مِنَ النَّقَائِصِ . وَالَّذِي أَرَى أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً ، وَأَنَّ الْبَاءَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ وَتَقْدِيرُهُ : أَنَّ ذَلِكَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ، عَلَى نَحْوِ مَا قِيلَ فِي تَعَلُّقِ الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ ( بِاسْمِ اللَّهِ ) وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ اسْتِعْمَالُهُمْ كَقَوْلِ الْحَمَاسِيِّ
الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ اللَّهَبِيِّ :
كُلٌّ لَهُ نِيَّةٌ فِي بُغْضِ صَاحِبِهِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ نَقْلِيكُمْ وَتَقْلُـونَـا
وَذَهَبَ
nindex.php?page=showalam&ids=12671ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيهِ أَنَّ (
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=2بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ) مُتَعَلِّقٌ بِمَا يَتَضَمَّنُهُ حَرْفُ ( مَا ) النَّافِيَةِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ وَقَدَّرَهُ : انْتَفَى أَنْ تَكُونَ مَجْنُونًا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ . وَلَا يَصِحُّ تَعَلُّقُهُ بِقَوْلِهِ ( مَجْنُونٍ ) إِذْ لَوْ عُلِّقَ بِهِ لَأَوْهَمَ نَفْيَ جُنُونٍ خَاصٍّ وَهُوَ الْجُنُونُ الَّذِي يَكُونُ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَقِيمٍ . وَاسْتَحْسَنَ هَذَا
ابْنُ هِشَامٍ فِي مُغْنِي اللَّبِيبِ فِي الْبَابِ الثَّالِثِ لَوْلَا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِاتِّفَاقِ النُّحَاةِ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ تَعَلُّقِ الظَّرْفِ بِالْحَرْفِ وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ فِي ذَلِكَ إِلَّا
أَبُو عَلِيٍّ وَأَبُو الْفَتْحِ فِي خُصُوصِ تَعَلُّقِ الْمَجْرُورِ وَالظَّرْفِ بِمَعْنَى الْحَرْفِ النَّائِبِ عَنْ فِعْلٍ مِثْلُ حَرْفِ النِّدَاءِ فِي قَوْلِكَ : يَا لَزَيْدٍ يُرِيدُ فِي الْاسْتِغَاثَةِ ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=29فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ فِي سُورَةِ الطُّورِ .
وَلَمَّا ثَبَّتَ اللَّهُ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَفَعَ بُهْتَانَ أَعْدَائِهِ أَعْقَبَهُ بِإِكْرَامِهِ بِأَجْرٍ عَظِيمٍ عَلَى مَا لَقِيَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَذًى بِقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=3وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ بِقَرِينَةِ وُقُوعِهِ عَقِبَ قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=2مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ، مُؤَكِّدًا ذَلِكَ بِحَرْفِ ( إِنَّ ) وَبِلَامِ الْابْتِدَاءِ وَبِتَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ وَهُوَ فِي قَوْلِهِ لَكَ .
[ ص: 63 ] وَهَذَا الْأَجْرُ هُوَ ثَوَابُ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ وَعِنَايَةُ اللَّهِ بِهِ وَنَصْرُهُ فِي الدُّنْيَا .
وَ ( مَمْنُونٍ ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنْ مَنِّ الْمُعْطِي عَلَى الْمُعْطَى إِذَا عَدَّ عَلَيْهِ عَطَاءَهُ وَذَكَرَهُ لَهُ ، أَوِ افْتَخَرَ عَلَيْهِ بِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَسُوءُ الْمُعْطَى ، قَالَ
النَّابِغَةُ :
عَلَيَّ لِعَمْرٍو نِعْمَةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ لِوَالِدِهِ لَيْسَتْ بِذَاتِ عَقَارِبٍ
أَيْ لَيْسَ فِيهَا أَذًى ، وَالْمَنُّ مِنَ الْأَذَى قَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=264يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى .
وَقَدِ انْتَزَعَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَوْ غَيْرُهُ فِي قَوْلِهِ :
أَيَادِيَ لَمْ تُمْنَنْ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ
قَبْلَهُ :
سَأَشْكُرُ عَمْرًا إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي
وَمُرَادُهُ
nindex.php?page=showalam&ids=5947عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ الْمَعْرُوفُ
بِالْأَشْدَقِ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ( مَمْنُونٍ ) مُشْتَقًّا مِنْ قَوْلِهِمْ : مَنَّ الْحَبْلَ ، إِذَا قَطَعَهُ ، أَيْ أَجْرًا غَيْرَ مَقْطُوعٍ عَنْكَ ، وَهُوَ الثَّوَابُ الْمُتَزَايِدُ كُلَّ يَوْمٍ ، أَوْ أَجْرًا أَبَدِيًّا فِي الْآخِرَةِ ، وَلِهَذَا كَانَ لِإِيثَارِ كَلِمَةِ ( مَمْنُونٍ ) هُنَا مِنَ الْإِيجَازِ بِجَمْعِ مَعْنَيَيْنِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=108عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ فِي سُورَةِ هُودٍ ؛ لِأَنَّ مَا هُنَا تَكْرِمَةٌ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
وَبَعْدَ أَنْ آنَسَ نَفْسَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْوَعْدِ عَادَ إِلَى تَسْفِيهِ قَوْلِ الْأَعْدَاءِ فَحَقَّقَ أَنَّهُ مُتَلَبِّسٌ بِخُلُقٍ عَظِيمٍ وَذَلِكَ ضِدُّ الْجُنُونِ مُؤَكِّدًا ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ مُؤَكِّدَاتٍ مِثْلُ مَا فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهُ .
وَالْخُلُقُ : طِبَاعُ النَّفْسِ ، وَأَكْثَرُ إِطْلَاقِهِ عَلَى طِبَاعِ الْخَيْرِ إِذَا لَمْ تُتْبَعْ بِنَعْتٍ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=137إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ .
وَالْعَظِيمُ : الرَّفِيعُ الْقَدْرِ وَهُوَ مُسْتَعَارٌ مِنْ ضَخَامَةِ الْجِسْمِ ، وَشَاعَتْ هَذِهِ الْاسْتِعَارَةُ حَتَّى سَاوَتِ الْحَقِيقَةَ .
وَ ( عَلَى ) لِلْاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الْمُرَادُ بِهِ التَّمَكُّنُ كَقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=5أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=79إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ،
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=43إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ،
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=67إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ .
[ ص: 64 ] وَفِي حَدِيثِ
عَائِشَةَ أَنَّهَا
nindex.php?page=hadith&LINKID=2002709سُئِلَتْ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ : كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ أَيْ مَا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ مِنْ إِيقَاعِ الْفَضَائِلِ وَالْمَكَارِمِ وَالنَّهْيِ عَنْ أَضْدَادِهَا .
وَالْخُلُقُ الْعَظِيمُ : هُوَ الْخُلُقُ الْأَكْرَمُ فِي نَوْعِ الْأَخْلَاقِ وَهُوَ الْبَالِغُ أَشَدَّ الْكَمَالِ الْمَحْمُودِ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ لِاجْتِمَاعِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِي النَّبِيءِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ حَسَنٌ مُعَامَلَتِهِ النَّاسَ إِلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ الْمُقْتَضِيَةِ لِحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ ، فَالْخُلُقُ الْعَظِيمُ أَرْفَعُ مِنْ مُطْلَقِ الْخُلُقِ الْحَسَنِ .
وَلِهَذَا قَالَتْ
عَائِشَةُ كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ ، أَلَسْتَ تَقْرَأُ
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=1قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الْآيَاتِ الْعَشْرَ . وَعَنْ
عَلِيٍّ الْخُلُقُ الْعَظِيمُ : هُوَ أَدَبُ الْقُرْآنِ وَيَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّ مَا وَصَفَ بِهِ الْقُرْآنُ مَحَامِدَ الْأَخْلَاقِ وَمَا وُصِفَ بِهِ النَّبِيءُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=159فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=199خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ . وَمَا أَخَذَ بِهِ مِنَ الْأَدَبِ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ غَيْرَ الْقُرْآنِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
nindex.php?page=hadith&LINKID=2002710إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ ، فَجَعَلَ أَصْلَ شَرِيعَتِهِ إِكْمَالَ مَا يَحْتَاجُهُ الْبَشَرُ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِي نُفُوسِهِمْ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْبَرُ مَظْهَرٍ لِمَا فِي شَرْعِهِ قَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=18ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=163وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ .
فَكَمَا جَعَلَ اللَّهُ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ جَعَلَ شَرِيعَتَهُ لِحَمْلِ النَّاسِ عَلَى التَّخَلُّقِ بِالْخُلُقِ الْعَظِيمِ بِمُنْتَهَى الْاسْتِطَاعَةِ .
وَبِهَذَا يَزْدَادُ وُضُوحًا مَعْنَى التَّمَكُّنِ الَّذِي أَفَادَهُ حَرْفُ الْاسْتِعْلَاءِ فِي قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=4وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ الْخُلُقُ الْعَظِيمُ فِي نَفْسِهِ ، وَمُتَمَكِّنٌ مِنْهُ فِي دَعْوَتِهِ الدِّينِيَّةِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ جُمَاعَ الْخُلُقِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْخُلُقِ الْحَسَنِ هُوَ التَّدَيُّنُ ، وَمَعْرِفَةُ الْحَقَائِقِ ، وَحِلْمُ النَّفْسِ ، وَالْعَدْلُ ، وَالصَّبْرُ عَلَى الْمَتَاعِبِ ، وَالْاعْتِرَافُ لِلْمُحْسِنِ ، وَالتَّوَاضُعُ ، وَالزُّهْدُ ، وَالْعِفَّةُ ، وَالْعَفْوُ ، وَالْجُمُودُ ، وَالْحَيَاءُ ، وَالشَّجَاعَةُ ، وَحُسْنُ الصَّمْتِ ، وَالتَّؤُدَةُ ، وَالْوَقَارُ ، وَالرَّحْمَةُ ، وَحُسْنُ الْمُعَامَلَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ .
وَالْأَخْلَاقُ كَامِنَةٌ فِي النَّفْسِ وَمَظَاهِرُهَا تَصَرُّفَاتُ صَاحِبِهَا فِي كَلَامِهِ ، وَطَلَاقَةِ
[ ص: 65 ] وَجْهِهِ ، وَثَبَاتِهِ ، وَحُكْمِهِ ، وَحَرَكَتِهِ وَسُكُونِهِ ، وَطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ ، وَتَأْدِيبِ أَهْلِهِ ، وَمَنْ لِنَظِرِهِ ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ حُرْمَتِهِ عِنْدَ النَّاسِ ، وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالسُّمْعَةِ .
وَأَمَّا مَظَاهِرُهَا فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَفِي سِيَاسِيَّتِهِ أُمَّتِهِ ، وَفِيمَا خُصَّ بِهِ مِنْ فَصَاحَةِ كَلَامِهِ وَجَوَامِعِ كَلِمِهِ .