قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون .
قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20ويوم يعرض أي ذكرهم يا
محمد يوم يعرض .
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20الذين كفروا على النار أي يكشف الغطاء فيقربون من النار وينظرون إليها .
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها أي يقال لهم
[ ص: 186 ] أذهبتم ، فالقول مضمر . وقرأ
الحسن ونصر nindex.php?page=showalam&ids=11873وأبو العالية ويعقوب وابن كثير ( أأذهبتم ) بهمزتين مخففتين ، واختاره
أبو حاتم . وقرأ
أبو حيوة وهشام ( آذهبتم ) بهمزة واحدة مطولة على الاستفهام . الباقون بهمزة واحدة من غير مد على الخبر ، وكلها لغات فصيحة ومعناها التوبيخ ، والعرب توبخ بالاستفهام وبغير الاستفهام ، وقد تقدم . واختار
أبو عبيد ترك الاستفهام لأنه قراءة أكثر أئمة السبعة
نافع وعاصم وأبي عمرو وحمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ، مع من وافقهم
شيبة nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري وابن محيصن والمغيرة بن أبي شهاب ويحيى بن الحارث nindex.php?page=showalam&ids=13726والأعمش ويحيى بن وثاب وغيرهم ، فهذه عليها جلة الناس . وترك الاستفهام أحسن ; لأن إثباته يوهم أنهم لم يفعلوا ذلك ، كما تقول : أنا ظلمتك ؟ تريد أنا لم أظلمك . وإثباته حسن أيضا ، يقول القائل : ذهبت ؟ فعلت كذا ؟ ، يوبخ ويقول : أذهبت ؟ فعلت ؟ . كل ذلك جائز . ومعنى
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20أذهبتم طيباتكم أي : تمتعتم بالطيبات في الدنيا واتبعتم الشهوات واللذات ، يعني المعاصي .
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20فاليوم تجزون عذاب الهون أي عذاب الخزي والفضيحة . قال
مجاهد : الهون الهوان .
قتادة : بلغة
قريش .
[ قوله تعالى : ]
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق أي تستعلون على أهلها بغير استحقاق .
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20وبما كنتم تفسقون في أفعالكم بغيا وظلما . وقيل :
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20أذهبتم طيباتكم أي : أفنيتم شبابكم في الكفر والمعاصي . قال
ابن بحر : الطيبات الشباب والقوة ، مأخوذ من قولهم : ذهب أطيباه ، أي : شبابه وقوته . قال
nindex.php?page=showalam&ids=15151الماوردي : ووجدت
الضحاك قاله أيضا .
قلت : القول الأول أظهر ، روى
الحسن عن
nindex.php?page=showalam&ids=13669الأحنف بن قيس أنه سمع
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول : لأنا أعلم بخفض العيش ، ولو شئت لجعلت أكبادا وصلاء وصنابا وصلائق ، ولكني أستبقي حسناتي ، فإن الله - عز وجل - وصف أقواما فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها وقال
أبو عبيد في حديث
عمر : لو شئت لدعوت بصلائق وصناب وكراكر وأسنمة . وفي بعض الحديث : وأفلاذ . قال
أبو عمرو وغيره : الصلاء ( بالمد والكسر ) : الشواء ، سمي بذلك لأنه يصلى بالنار . والصلاء أيضا : صلاء النار ، فإن فتحت الصاد قصرت وقلت : صلى النار . والصناب : الأصبغة المتخذة من الخردل والزبيب . قال
أبو عمرو : ولهذا قيل للبرذون : صنابي ، وإنما شبه لونه بذلك . قال : والسلائق ( بالسين ) هو ما يسلق من البقول وغيرها . وقال غيره : هي الصلائق بالصاد ، قال
جرير :
تكلفني معيشة آل زيد ومن لي بالصلائق والصناب
والصلائق : الخبز الرقاق العريض . وقد مضى هذا المعنى في ( الأعراف ) . وأما
[ ص: 187 ] الكراكر فكراكر الإبل ، واحدتها كركرة وهي معروفة ، هذا قول
أبي عبيد . وفي الصحاح : والكركرة رحى زور البعير ، وهي إحدى النفثات الخمس . والكركرة أيضا الجماعة من الناس .
وأبو مالك عمرو بن كركرة رجل من علماء اللغة . قال
أبو عبيد : وأما الأفلاذ فإن واحدها فلذ ، وهي القطعة من الكبد . قال
أعشى باهلة :
تكفيه حزة فلذ إن ألم بها من الشواء ويروي شربه الغمر
وقال
قتادة : ذكر لنا أن
عمر - رضي الله عنه - قال : لو شئت كنت أطيبكم طعاما ، وألينكم لباسا ، ولكني أستبقي طيباتي للآخرة . ولما قدم
عمر الشام صنع له طعام لم ير قط مثله قال : هذا لنا! فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وما شبعوا من خبز الشعير فقال
خالد بن الوليد : لهم الجنة ، فاغرورقت عينا
عمر بالدموع وقال : لئن كان حظنا من الدنيا هذا الحطام ، وذهبوا هم في حظهم بالجنة فلقد باينونا بونا بعيدا . وفي صحيح
مسلم وغيره
nindex.php?page=hadith&LINKID=866102أن عمر - رضي الله عنه - دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في مشربته حين هجر نساءه قال : فالتفت فلم أر شيئا يرد البصر إلا أهبا جلودا معطونة قد سطع ريحها ، فقلت : يا رسول الله ، أنت رسول الله وخيرته ، وهذا كسرى وقيصر في الديباج والحرير ؟ قال : فاستوى جالسا وقال : ( أفي شك أنت يا ابن الخطاب . أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا ) فقلت : استغفر لي فقال : ( اللهم اغفر له ) .
وقال
حفص بن أبي العاص : كنت أتغدى عند
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الخبز والزيت ، والخبز والخل ، والخبز واللبن ، والخبز والقديد ، وأقل ذلك اللحم الغريض . وكان يقول : لا تنخلوا الدقيق فإنه طعام كله ، فجيء بخبز متفلع غليظ ، فجعل يأكل ويقول : كلوا ، فجعلنا لا نأكل ، فقال : ما لكم لا تأكلون ؟ فقلنا : والله يا أمير المؤمنين نرجع إلى طعام ألين من طعامك هذا ، فقال : يا
ابن أبي العاص أما ترى بأني عالم أن لو أمرت بعناق سمينة فيلقى عنها شعرها ثم تخرج مصلية كأنها كذا وكذا ، أما ترى بأني عالم أن لو أمرت بصاع أو صاعين من زبيب فأجعله في سقاء ثم أشن عليه من الماء فيصبح كأنه دم غزال ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، أجل ما تنعت العيش ، قال : أجل والله الذي لا إله إلا هو لولا أني أخاف أن تنقص حسناتي يوم القيامة لشاركناكم في العيش ولكني سمعت الله تعالى يقول لأقوام :
[ ص: 188 ] nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20فاليوم تجزون عذاب الهون أي : الهوان .
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق أي : تتعظمون عن طاعة الله وعلى عباد الله .
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20وبما كنتم تفسقون تخرجون عن طاعة الله . وقال
جابر : اشتهى أهلي لحما فاشتريته لهم فمررت
بعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال : ما هذا يا
جابر ؟ فأخبرته ، فقال : أوكلما اشتهى أحدكم شيئا جعله في بطنه أما يخشى أن يكون من أهل هذه الآية :
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20أذهبتم طيباتكم الآية . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : وهذا عتاب منه له على التوسع بابتياع اللحم والخروج عن جلف الخبز والماء ، فإن تعاطي الطيبات من الحلال تستشره لها الطباع وتستمرئها العادة فإذا فقدتها استسهلت في تحصيلها بالشبهات حتى تقع في الحرام المحض بغلبة العادة واستشراه الهوى على النفس الأمارة بالسوء . فأخذ
عمر الأمر من أوله وحماه من ابتدائه كما يفعله مثله . والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه : على المرء أن يأكل ما وجد ، طيبا كان أو قفارا ، ولا يتكلف الطيب ويتخذه عادة ، وقد
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشبع إذا وجد ، ويصبر إذا عدم ، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها ، ويشرب العسل إذا اتفق له ، ويأكل اللحم إذا تيسر ، ولا يعتمد أصلا ، ولا يجعله ديدنا . ومعيشة النبي - صلى الله عليه وسلم - معلومة ، وطريقة الصحابة منقولة ، فأما اليوم عند استيلاء الحرام وفساد الحطام فالخلاص عسير ، والله يهب الإخلاص ، ويعين على الخلاص برحمته . وقيل : إن التوبيخ واقع على ترك الشكر لا على تناول الطيبات المحللة ، وهو حسن ، فإن تناول الطيب الحلال مأذون فيه ، فإذا ترك الشكر عليه واستعان به على ما لا يحل له فقد أذهبه . والله أعلم .
قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20وَيَوْمَ يُعْرَضُ أَيْ ذَكِّرْهُمْ يَا
مُحَمَّدُ يَوْمَ يُعْرَضُ .
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَيْ يُكْشَفُ الْغِطَاءُ فَيُقَرَّبُونَ مِنَ النَّارِ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهَا .
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا أَيْ يُقَالُ لَهُمْ
[ ص: 186 ] أَذْهَبْتُمْ ، فَالْقَوْلُ مُضْمَرٌ . وَقَرَأَ
الْحَسَنُ وَنَصْرٌ nindex.php?page=showalam&ids=11873وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَيَعْقُوبُ وَابْنُ كَثِيرٍ ( أَأَذْهَبْتُمْ ) بِهَمْزَتَيْنِ مُخَفَّفَتَيْنِ ، وَاخْتَارَهُ
أَبُو حَاتِمٍ . وَقَرَأَ
أَبُو حَيْوَةَ وَهِشَامٌ ( آذْهَبْتُمْ ) بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ مُطَوَّلَةٍ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ . الْبَاقُونَ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ عَلَى الْخَبَرِ ، وَكُلُّهَا لُغَاتٌ فَصِيحَةٌ وَمَعْنَاهَا التَّوْبِيخُ ، وَالْعَرَبُ تُوَبِّخُ بِالِاسْتِفْهَامِ وَبِغَيْرِ الِاسْتِفْهَامِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَاخْتَارَ
أَبُو عُبَيْدٍ تَرْكُ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّهُ قِرَاءَةُ أَكْثَرِ أَئِمَّةِ السَّبْعَةِ
نَافِعٍ وَعَاصِمٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَحَمْزَةَ nindex.php?page=showalam&ids=15080وَالْكِسَائِيِّ ، مَعَ مَنْ وَافَقَهُمْ
شَيْبَةُ nindex.php?page=showalam&ids=12300وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ أَبِي شِهَابٍ وَيَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ nindex.php?page=showalam&ids=13726وَالْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَغَيْرُهُمْ ، فَهَذِهِ عَلَيْهَا جِلَّةُ النَّاسِ . وَتَرْكُ الِاسْتِفْهَامِ أَحْسَنُ ; لِأَنَّ إِثْبَاتَهُ يُوهِمُ أَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ ، كَمَا تَقُولُ : أَنَا ظَلَمْتُكَ ؟ تُرِيدُ أَنَا لَمْ أَظْلِمْكَ . وَإِثْبَاتُهُ حَسَنٌ أَيْضًا ، يَقُولُ الْقَائِلُ : ذَهَبْتَ ؟ فَعَلْتَ كَذَا ؟ ، يُوَبِّخُ وَيَقُولُ : أَذَهَبْتَ ؟ فَعَلْتَ ؟ . كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ . وَمَعْنَى
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ أَيْ : تَمَتَّعْتُمْ بِالطَّيِّبَاتِ فِي الدُّنْيَا وَاتَّبَعْتُمُ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ ، يَعْنِي الْمَعَاصِيَ .
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ أَيْ عَذَابَ الْخِزْيِ وَالْفَضِيحَةِ . قَالَ
مُجَاهِدٌ : الْهُونُ الْهَوَانُ .
قَتَادَةُ : بِلُغَةِ
قُرَيْشٍ .
[ قَوْلُهُ تَعَالَى : ]
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أَيْ تَسْتَعْلُونَ عَلَى أَهْلِهَا بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ .
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ فِي أَفْعَالِكُمْ بَغْيًا وَظُلْمًا . وَقِيلَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ أَيْ : أَفْنَيْتُمْ شَبَابَكُمْ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي . قَالَ
ابْنُ بَحْرٍ : الطَّيِّبَاتُ الشَّبَابُ وَالْقُوَّةُ ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ : ذَهَبَ أَطْيَبَاهُ ، أَيْ : شَبَابُهُ وَقُوَّتُهُ . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=15151الْمَاوَرْدِيُّ : وَوَجَدْتُ
الضَّحَّاكَ قَالَهُ أَيْضًا .
قُلْتُ : الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ ، رَوَى
الْحَسَنُ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=13669الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ سَمِعَ
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ : لَأَنَا أَعْلَمُ بِخَفْضِ الْعَيْشِ ، وَلَوْ شِئْتُ لَجَعَلْتُ أَكْبَادًا وَصِلَاءً وَصِنَابًا وَصَلَائِقَ ، وَلَكِنِّي أَسْتَبْقِيَ حَسَنَاتِي ، فَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - وَصَفَ أَقْوَامًا فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا وَقَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ فِي حَدِيثِ
عُمَرَ : لَوْ شِئْتُ لَدَعَوْتُ بِصَلَائِقَ وَصِنَابٍ وَكَرَاكِرَ وَأَسْنِمَةٍ . وَفِي بَعْضِ الْحَدِيثِ : وَأَفْلَاذٍ . قَالَ
أَبُو عَمْرٍو وَغَيْرُهُ : الصِّلَاءُ ( بِالْمَدِّ وَالْكَسْرِ ) : الشِّوَاءُ ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُصْلَى بِالنَّارِ . وَالصِّلَاءُ أَيْضًا : صِلَاءُ النَّارِ ، فَإِنْ فَتَحْتَ الصَّادَ قَصَرْتَ وَقُلْتَ : صَلَى النَّارَ . وَالصِّنَابُ : الْأَصْبِغَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنَ الْخَرْدَلِ وَالزَّبِيبِ . قَالَ
أَبُو عَمْرٍو : وَلِهَذَا قِيلَ لِلْبِرْذَوْنِ : صِنَابِيٌّ ، وَإِنَّمَا شُبِّهَ لَوْنُهُ بِذَلِكَ . قَالَ : وَالسَّلَائِقُ ( بِالسِّينِ ) هُوَ مَا يُسْلَقُ مِنَ الْبُقُولِ وَغَيْرِهَا . وَقَالَ غَيْرُهُ : هِيَ الصَّلَائِقُ بِالصَّادِ ، قَالَ
جَرِيرٌ :
تُكَلِّفُنِي مَعِيشَةَ آلِ زَيْدٍ وَمَنْ لِي بِالصَّلَائِقِ وَالصِّنَابِ
وَالصَّلَائِقُ : الْخُبْزُ الرِّقَاقُ الْعَرِيضُ . وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي ( الْأَعْرَافِ ) . وَأَمَّا
[ ص: 187 ] الْكَرَاكِرُ فَكَرَاكِرُ الْإِبِلِ ، وَاحِدَتُهَا كِرْكِرَةُ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ ، هَذَا قَوْلُ
أَبِي عُبَيْدٍ . وَفِي الصِّحَاحِ : وَالْكِرْكِرَةُ رَحَى زَوْرِ الْبَعِيرِ ، وَهِيَ إِحْدَى النِّفَثَاتِ الْخَمْسِ . وَالْكِرْكِرَةُ أَيْضًا الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ .
وَأَبُو مَالِكٍ عَمْرُو بْنُ كِرْكِرَةَ رَجُلٌ مِنْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ . قَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ : وَأَمَّا الْأَفْلَاذُ فَإِنَّ وَاحِدَهَا فِلْذٌ ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الْكَبِدِ . قَالَ
أَعْشَى بَاهِلَةَ :
تَكْفِيهِ حُزَّةُ فِلْذٍ إِنْ أَلَمَّ بِهَا مِنَ الشِّوَاءِ وَيُرْوِي شُرْبَهُ الْغُمَرُ
وَقَالَ
قَتَادَةُ : ذُكِرَ لَنَا أَنَّ
عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : لَوْ شِئْتُ كُنْتُ أَطْيَبَكُمْ طَعَامًا ، وَأَلْيَنَكُمْ لِبَاسًا ، وَلَكِنِّي أَسْتَبْقِي طَيِّبَاتِي لِلْآخِرَةِ . وَلَمَّا قَدِمَ
عُمَرُ الشَّامَ صُنِعَ لَهُ طَعَامٌ لَمْ يَرَ قَطُّ مِثْلَهُ قَالَ : هَذَا لَنَا! فَمَا لِفُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ مَاتُوا وَمَا شَبِعُوا مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ فَقَالَ
خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ : لَهُمُ الْجَنَّةُ ، فَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَا
عُمَرَ بِالدُّمُوعِ وَقَالَ : لَئِنْ كَانَ حَظُّنَا مِنَ الدُّنْيَا هَذَا الْحُطَامَ ، وَذَهَبُوا هُمْ فِي حَظِّهِمْ بِالْجَنَّةِ فَلَقَدْ بَايَنُونَا بَوْنًا بَعِيدًا . وَفِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ
nindex.php?page=hadith&LINKID=866102أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي مَشْرُبَتِهِ حِينَ هَجَرَ نِسَاءَهُ قَالَ : فَالْتَفَتُّ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ إِلَّا أُهُبًا جُلُودًا مَعْطُونَةً قَدْ سَطَعَ رِيحُهَا ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخِيَرَتُهُ ، وَهَذَا كِسْرَى وَقَيْصَرُ فِي الدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ ؟ قَالَ : فَاسْتَوَى جَالِسًا وَقَالَ : ( أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ . أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا ) فَقُلْتُ : اسْتَغْفِرْ لِي فَقَالَ : ( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ ) .
وَقَالَ
حَفْصُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ : كُنْتُ أَتَغَدَّى عِنْدَ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْخُبْزَ وَالزَّيْتَ ، وَالْخُبْزَ وَالْخَلَّ ، وَالْخُبْزَ وَاللَّبَنَ ، وَالْخُبْزَ وَالْقَدِيدَ ، وَأَقَلَّ ذَلِكَ اللَّحْمَ الْغَرِيضَ . وَكَانَ يَقُولُ : لَا تَنْخُلُوا الدَّقِيقَ فَإِنَّهُ طَعَامٌ كُلُّهُ ، فَجِيءَ بِخُبْزٍ مُتَفَلِّعٍ غَلِيظٍ ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ وَيَقُولُ : كُلُوا ، فَجَعَلْنَا لَا نَأْكُلُ ، فَقَالَ : مَا لَكُمْ لَا تَأْكُلُونَ ؟ فَقُلْنَا : وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَرْجِعُ إِلَى طَعَامٍ أَلْيَنَ مِنْ طَعَامِكَ هَذَا ، فَقَالَ : يَا
ابْنَ أَبِي الْعَاصِ أَمَا تَرَى بِأَنِّي عَالِمٌ أَنْ لَوْ أَمَرْتُ بِعَنَاقٍ سَمِينَةٍ فَيُلْقَى عَنْهَا شَعْرُهَا ثُمَّ تُخْرَجُ مَصْلِيَّةً كَأَنَّهَا كَذَا وَكَذَا ، أَمَا تَرَى بِأَنِّي عَالِمٌ أَنْ لَوْ أَمَرْتُ بِصَاعٍ أَوْ صَاعَيْنِ مِنْ زَبِيبٍ فَأَجْعَلُهُ فِي سِقَاءٍ ثُمَّ أَشُنُّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ فَيُصْبِحُ كَأَنَّهُ دَمُ غَزَالٍ ، فَقُلْتُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، أَجَلْ مَا تَنْعَتُ الْعَيْشَ ، قَالَ : أَجَلْ وَاللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَنْقُصَ حَسَنَاتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَشَارَكْنَاكُمْ فِي الْعَيْشِ وَلَكِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِأَقْوَامٍ :
[ ص: 188 ] nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ أَيِ : الْهَوَانُ .
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أَيْ : تَتَعَظَّمُونَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ .
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ تَخْرُجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ . وَقَالَ
جَابِرٌ : اشْتَهَى أَهْلِي لَحْمًا فَاشْتَرَيْتُهُ لَهُمْ فَمَرَرْتُ
بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ : مَا هَذَا يَا
جَابِرُ ؟ فَأَخْبَرْتُهُ ، فَقَالَ : أَوَكُلَّمَا اشْتَهَى أَحَدُكُمْ شَيْئًا جَعَلَهُ فِي بَطْنِهِ أَمَا يَخْشَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمُ الْآيَةَ . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَهَذَا عِتَابٌ مِنْهُ لَهُ عَلَى التَّوَسُّعِ بِابْتِيَاعِ اللَّحْمِ وَالْخُرُوجِ عَنْ جِلْفِ الْخُبْزِ وَالْمَاءِ ، فَإِنَّ تَعَاطِيَ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْحَلَالِ تَسْتَشْرِهُ لَهَا الطِّبَاعُ وَتَسْتَمْرِئُهَا الْعَادَةُ فَإِذَا فَقَدَتْهَا اسْتَسْهَلْتَ فِي تَحْصِيلِهَا بِالشُّبُهَاتِ حَتَّى تَقَعَ فِي الْحَرَامِ الْمَحْضِ بِغَلَبَةِ الْعَادَةِ وَاسْتِشْرَاهِ الْهَوَى عَلَى النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ . فَأَخَذَ
عُمَرُ الْأَمْرَ مِنْ أَوَّلِهِ وَحَمَاهُ مِنَ ابْتِدَائِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ مِثْلُهُ . وَالَّذِي يَضْبِطُ هَذَا الْبَابَ وَيَحْفَظُ قَانُونَهُ : عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَأْكُلَ مَا وَجَدَ ، طَيِّبًا كَانَ أَوْ قَفَارًا ، وَلَا يَتَكَلَّفُ الطَّيِّبَ وَيَتَّخِذُهُ عَادَةً ، وَقَدْ
كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْبَعُ إِذَا وَجَدَ ، وَيَصْبِرُ إِذَا عَدِمَ ، وَيَأْكُلُ الْحَلْوَى إِذَا قَدَرَ عَلَيْهَا ، وَيَشْرَبُ الْعَسَلَ إِذَا اتَّفَقَ لَهُ ، وَيَأْكُلُ اللَّحْمَ إِذَا تَيَسَّرَ ، وَلَا يَعْتَمِدُ أَصْلًا ، وَلَا يَجْعَلُهُ دَيْدَنًا . وَمَعِيشَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْلُومَةٌ ، وَطَرِيقَةُ الصَّحَابَةِ مَنْقُولَةٌ ، فَأَمَّا الْيَوْمُ عِنْدَ اسْتِيلَاءِ الْحَرَامِ وَفَسَادِ الْحُطَامِ فَالْخَلَاصُ عَسِيرٌ ، وَاللَّهُ يَهَبُ الْإِخْلَاصَ ، وَيُعِينُ عَلَى الْخَلَاصِ بِرَحْمَتِهِ . وَقِيلَ : إِنَّ التَّوْبِيخَ وَاقِعٌ عَلَى تَرْكِ الشُّكْرِ لَا عَلَى تَنَاوُلِ الطَّيِّبَاتِ الْمُحَلَّلَةِ ، وَهُوَ حَسَنٌ ، فَإِنَّ تَنَاوُلَ الطَّيِّبِ الْحَلَالِ مَأْذُونٌ فِيهِ ، فَإِذَا تَرَكَ الشُّكْرَ عَلَيْهِ وَاسْتَعَانَ بِهِ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ فَقَدْ أَذْهَبَهُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .