الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

من صفات المنافقين

من صفات المنافقين

من صفات المنافقين

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..وبعد:
فحديثنا في هذا المقال وما يليه إن شاء الله تعالى عن بعض صفات المنافقين كما تحدث عنها القرآن في سورة البقرة، لكن لماذا الحديث عن النفاق وصفات المنافقين؟

لأن أكبر خطر تهددت به الأمة الإسلامية على مر العصور هو النفاق ولهذا كان مصيرهم يوم القيامة أسوأ مصير في الدرك الأسفل من النار ؛ لأنهم شر من الكفار الصُّرَح ، فبلية المؤمنين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المجاهرين ؛ لأنهم لا يظهرون ما يعتقدون ، يعملون في الخفاء ، ويظهرون لباس الإخوان والأصدقاء، فهم مستأمنون لا يحسب لهم حساب ولا يراقبون ولا يحترز منهم إلا القليل من المؤمنين ، والعدو المخالط المداخل المساكن أخطر وأشد كيدًا من العدو الظاهر البعيد ، فهم أخطر من الجيوش العسكرية ، والانحرافات الفكرية لأن أصحابها أعداء معروفون واضحون لا يقبل كثير من الناس أقوالهم .

وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان".
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أخطر المصائب في تاريخ الأمة الإسلامية قديمًا وحديثًا عن طريق المنافقين ، ولا نكاد نرى عصرًا من عصور تاريخ المسلمين إلا ونجد للمنافقين فيه دورًا خطيرًا ، فقد أفسدوا عقائد كثير من الناس.

والمتتبع لجذور الانحراف العقدي في تاريخ المسلمين يجد المنافقين وراءه ، ومن أبرز الأمثلة في ذلك فرقة السبئيّة التي وضع أسسها المنافق اليهودي عبد الله بن سبأ ، الذي أظهر الإسلام في عهد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وأخذ يطوف البلاد الإسلامية ينشر معتقده ، وقد لبَّس على العامة في زمن كان فيه كثير من الصحابة ، حتى إن بعض أتباعه هددهم علي - رضي الله عنه - بالموت حرقًا إن لم يرجعوا عن هذه العقيدة الضالة ، فأصروا وفضلوا الموت على الرجوع عن ضلالهم ، وقد كان من نتيجة فتنة عبد الله بن سبأ مقتل الخليفة الثالث الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه.

وكان سقوط بغداد مركز الخلافة الإسلامية العباسية عام ( 656 هـ ) على يد المنافق الخبيث ابن العلقمي الرافضي الذي تعاون مع التتار الذين قتلوا جميع من يقدرون عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والشبان حتى بلغوا مليون قتيل ، وقد كان ابن العلقمي وزيرًا عند الخليفة المستعصم يظهر الولاء والنصرة ، له فضل في الإنشاء والأدب لكنه كان منافقًا يضمر الحقد على الإسلام وأهله ، كاتب التتار وزين لهم اجتياح بغداد ، وكان ذلك بعد أن سرح الجند وصرف الجيوش عن بغداد حتى لم يبق منهم إلا عشرة آلاف ثم أرسل إلى التتار يسهل عليهم أمر اجتياح المدينة فقدموا وحدث ما حدث.

والأمثلة كثيرة جدًا ولهذا كان الواجب التحذير من النفاق ، وبيان صفات أهله ، وكشف جهودهم في هدم الإسلام وخدمة أعدائه وموالاتهم وتنفيذ مخططاتهم .

سبب ظهور النفاق في المدينة

عَرَّف الإمام ابن كثير ــ رحمه الله تعالى ــ النفاق، وذكر أنواعه وسبب ظهوره فقال: ( النفاق: هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو أنواع: اعتقادي: وهو الذي يخلد صاحبه في النار، وعملي: وهو من أكبر الذنوب.. وهذا كما قال ابن جريج: المنافق يخالف قوله فعله، وسره علانيته، ومدخله مخرجه، ومشهده مغيبه.

وإنما نزلت صفات المنافقين في السور المدنية؛ لأن مكة لم يكن فيها نفاق، بل كان خلافه، من الناس من كان يظهر الكفر مستكرهاً وهو في الباطن مؤمن، فلما هاجر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة. وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج، وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام على طريقة مشركي العرب، وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلافهم، وكانوا ثلاث قبائل:

بنو قينقاع حلفاء الأوس والخزرج ..(وبنو النضير وبنو قريظة) وقَلَّ من أسلم من اليهود إلا عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضاً؛ لأنه لم يكن للمسلمين بعد شوكة تخاف، بل قد كان -عليه الصلاة والسلام- وَادَعَ اليهود، وقبائل كثيرة من أحياء العرب حوالي المدينة، فلما كانت وقعة بدر العظمى، وأظهر الله كلمته، وأعز الإسلام وأهله، قال عبد الله بن أبي بن سلول – وكان رأساً في المدينة وهو من الخزرج، وكان سيد الطائفتين في الجاهلية، وكانوا قد عزموا على أن يملكوه عليهم، فجاءهم الخير وأسلموا واشتغلوا عنه، فبقي في نفسه من الإسلام وأهله، فلما كانت وقعة بدر – قال:

هذا أمر قد توجه(يعني انقضى)! فأظهر الدخول في الإسلام، ودخل معه طوائف ممن هو على طريقته ونحلته، وآخرون من أهل الكتاب، فمن ثم وُجد النفاق في أهل المدينة، ومن حولها من الأعراب، فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد يهاجر مكرهاً، بل يهاجر فيترك ماله وولده وأرضه رغبة فيما عند الله في الدار الآخرة).

وسنتعرض بالتفصيل لبقية أسباب النفاق في مقال آخر لكننا ندخل الآن في صلب الموضوع وهو الحديث عن هذه الصفات كما وردت في أول سورة البقرة.

الصفة الأولى: يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام:

كما قال -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} فهم في معاملاتهم وحلاوة ألسنتهم في الكلام تحسبهم مؤمنين، والله يكشف حالهم ويفضحهم إلى الأبد ليقول: (وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ) بل حقيقتهم الكفر وبغض الدين.
وفي هذه الآية تكذيب لدعواهم كما ذكر تكذيبه لهم في سورة المنافقين، فقال: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (1) سورة المنافقون.

الصفة الثانية: المخادعة والمكر:

قال تعالى: {يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ} (9) سورة البقرة. فيحصل الخداع منهم لله ولرسوله وللمؤمنين.. ويكون ذلك بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر، فيعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك، وأن ذاك نافعهم عند الله، وأنه يروج على بعض المؤمنين، كما قال –سبحانه-: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (18) سورة المجادلة.
إن في قوله –تعالى-: {يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا...} حقيقة كبيرة وتفضلاً من الله كريماً تلك الحقيقة هي التي يؤكدها القرآن دائماً ويقررها، وهي حقيقة الصلة بين الله والمؤمنين.. إنه يجعل صفهم صفه، وأمرهم أمره، وشأنهم شأنه، يجعل عدوهم عدوه، وما يوجه إليهم من مكر موجهاً إليه – سبحانه- وهذا هو التفضل العلوي الكريم.. وفي هذا المقطع من الآية تهديد شديد للذين يحاولون خداع المؤمنين والمكر بهم، وإيصال الأذى إليهم... تهديد لهم بأن معركتهم ليست مع المؤمنين وحدهم، إنما هي مع الله القوي الجبار القهار) (في ظلال القرآن 1/43. سيد قطب رحمه الله- بتصرف).

ثم بين سبحانه أن هؤلاء بجهلهم وغرورهم ومخادعتهم إنما يخدعون أنفسهم الدنيئة والقاصرة في نفس الوقت... تلك الأنفس التي ما عرفت عظمة الله وسعة علمه، وبصره. فالشعور بحقيقة الأمر عندهم قاصر، ولكن الحقيقة أنهم يخدعون أنفسهم ليوبقوها في الهلاك. من هو الله حتى يُخدع-!! ومن هؤلاء حتى يخدعوا الله!! لقد أساؤوا الظن بالله غاية الإساءة ولو عظموه حق تعظيمه لما حصل منهم ذلك.

الصفة الثالثة: قلوبهم مريضة:

قال – تعالى-: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} المرض هو الشك في حقيقة هذا الدين وصلاحيته لحكم الأرض والدنيا بأجمعها، قال ابن عباس: في قلوبهم مرض: أي شك، وكذا قال جمع من علماء السلف.
وقال بعضهم: أي في قلوبهم رياء. ( إن في طبيعتهم آفة.. في قلوبهم علة.. وهذا ما يحيد بهم عن الطريق الواضح المستقيم.. ويجعلهم يستحقون من الله أن يزيدهم مما هم فيه: (فزادهم الله مرضاً) فالمرض يُنشئ المرض.. والانحراف يبدأ يسيراً.. ثم تنفرج الزاوية في كل خطوة وتزداد، سنة لا تتخلف..).
(ولهم عذاب أليم) أي مؤلم لأجسادهم وقلوبهم بسبب صنيعهم الذي سلكوه في حياتهم مع الناس، تلك الحياة النكدة، المكدرة بالكذب، والخداع، والتحايل على البشر..

ونكمل في مقال قادم إن شاء الله ، ونعوذ بالله تعالى من النفاق والشقاق وسيء الأخلاق، ونسأله أن يحشرنا في زمرة المؤمنين المتقين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة