الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الأمين ـ صلى الله عليه وسلم ـ

الأمين ـ صلى الله عليه وسلم ـ

الأمين ـ صلى الله عليه وسلم ـ


عُرِفَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالأمانة والصدق حتى لُقِّبَ بالصادق الأمين، وكانت قريش إذا ذهب أو جاء يقولون جاء الأمين، و ذهب الأمين، ويدل على ذلك قصة الحجر الأسود عند بناء الكعبة المشرفة بعدما تنازعت قريش في استحقاق شرف رفعه ووضعه في محله حتى كادوا يقتتلون لولا اتفاقهم على تحكيم أول من يدخل المسجد الحرام، فكان محمد ـ صلى الله عليه و سلم ـ هو أول من دخل عليهم، فلما رأوه قالوا : " هذا الأمين، رضينا، هذا محمد " .
قال ابن هشام في السيرة النبوية: " فشبَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والله تعالى يكلؤه ويحفظه، ويحوطه من أقذار الجاهلية، لما يريد به من كرامته ورسالته، حتى بلغ أنْ كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم حسبا، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، تنزها وتكرما، حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة " .

لقد كانت ثقة أهل قريش بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي أمانته كبيرة، فكانوا ينقلون إلى بيته أموالهم ونفائسهم أمانة عنده، ولم يزل ذلك دأبهم حتى بعد معاداتهم له بسبب دعوته لهم إلى الإيمان بالله تعالى وترك عبادة الأوثان .
ذكر ابن كثير في السيرة النبوية: " لم يَعْلَم بخروج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحد حين خرج إلاَّ علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق وآل أبي بكر، أما علي فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمره أن يتخلف، حتى يؤدي عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الودائع، التي كانت عنده للناس، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته " .

وإذا كان الفضل والحق ما شهدت به الأعداء، فقد شهد بأمانة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعداؤه ، ففي القرطبي عند تفسير قول الله تعالى: { وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ }(الجاثـية: من الآية23) قال مقاتل: " نزلت في أبي جهل، وذلك أنه طاف بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد بن المغيرة، فتحدثا في شأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقال أبو جهل: والله إني لأعلم أنه لصادق! فقال له: مه! وما دلك على ذلك؟!، قال: يا أبا عبد شمس، كنا نسميه في صباه الصادق الأمين، فلما تم عقله وكمل رشده، نسميه الكذاب الخائن!! " .
وها هو أبو سفيان زعيم مكة ـ قبل إسلامه ـ يقف أمام هرقل ملك الروم و يعجز عن نفي صفة الأمانة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رغم حرصه حينئذ أن يطعن فيه، ولكن ما أن سأله هرقل عما يدعو إليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأجاب أبو سفيان : " يأمر بالصلاة، والصدق والعفاف، والوفاء بالعهد وأداء الأمانة " .

شَهِدَ الأَنَامُ بِفضْلِهِ حتى الْعِدَا وَالْفَضْلُ مَا شَهِدَتْ به الأَعْدَاءُ

والأمانة في سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ليست قاصرة على حفظ الودائع، بل لها مدلولٌ واسع يشمل الدين والحياة كلها، وأحاديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم الدالة على اتساع وشمول معنى الأمانة كثيرة، منها:

الولاية والإمارة :

عن معقل بن يسار ـ رضي الله عنه ـ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرعِيهِ اللهُ رَعِيَّة، يموت يوم يموت وهو غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إلا حرم الله عليه الجنة ) رواه مسلم .
وعن عبد الرحمن بن حجيرة الأكبر عن أبي ذر قال: قلتُ: ( يا رسول الله، ألا تستعملني؟، قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها ) رواه البخاري .

حفظ الدماء والأموال ـ الخاصة والعامة ـ :

عن أبي هريرة ـ ر ضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( المسلمُ من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن: من أمِنَهُ الناسُ على دمائهم وأموالهم ) رواه النسائي .
وعن أبى حميد الساعدى قال: ( استعمل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجلا على صدقات بنى سليم يدعى ابن اللتبية, فلما جاء حاسبه, قال: هذا مالكم , وهذا هدية, فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كُنْتَ صادقا؟ ! ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله, فيأتي فيقول: هذا مالكم, وهذا هدية أهديت لي! أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته؟ ! والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقِيَ الله يحمله يوم القيامة, فلا أعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء, أو بقرة لها خوار, أو شاة تيعر, ثم رفع يديه حتى رؤى بياض إبطيه يقول: اللهم هل بلغت ) رواه البخاري .
وفي رواية مسلم قال عروةُ : فقلتُ لأبي حُميدٍ الساعديِّ : أسمعتَه من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟ فقال : مِن فيه إلى أُذُني .
وعن عدي بن عميرة قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: ( من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة ) رواه مسلم .

المشورة:

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( المستشار مؤتمن ) رواه الترمذي .

الزوج مع زوجته :

عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة، الرجل يُفْضِي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها ) رواه مسلم، وفي رواية أخرى: ( ثم ينشرُ أحدُهما سِرَّ صاحبه )، ومعنى ( يفضي إلى امرأته ) : أي يصل إليها بالمباشرة والمجامعة، ومنه قوله تعالى { وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ }(النساء: من الآية21).
قال النووي : " وفي هذا الحديث تحريم إفشاء الرجل ما يجري بينه وبين امرأته من أمور الاستمتاع، ووصف تفاصيل ذلك وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل ونحوه " .

المسئولية:

عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( ألا كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع، وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده، وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته ) رواه مسلم .

البيع:

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: ( أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرَّ على صُبْرَةِ طعام، فأدخل أصابعه فيها، فإذا فيه بلل، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟!، قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: فهلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس، من غشنا فليس منا ) رواه مسلم .
قال البغوي: " لم يُرِدْ به نفيه عن دين الإسلام، وإنما أراد أنه ترك اتباعي، إذ ليس هذا من أخلاقنا وأفعالنا " .

ولأهمية الأمانة في حياة المسلم كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكثر من تذكيره لأصحابه بها، بل وربطها بالإيمان بالله ـ عز وجل ـ ، فقد روى البيهقي، وابن حبان عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: ( قلما خطبنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا قال: لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له ) .

وبالجملة فالأمانة ـ بل كل خلق محمود ـ له - صلى الله عليه وسلم - منه القسط الأكبر، والحظ الأوفر، شهد له بذلك العدو والصديق، وكيف لا يُشهد له بمكارم الأخلاق وقد شهد الله ـ عز وجل ـ له بذلك فقال تعالى: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ }(القلم:4)، وسئلت أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن خُلقه فقالت: ( كان خلقه القرآن ) .

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة