الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أصحاب الفيل

أصحاب الفيل

أصحاب الفيل

الأمور العظيمة يسبقها من الإشارات والأحداث ما يكون مؤذنا بقربها، وعلامة على وقوعها، ولم يطرق البشرية حدث أعظم من ميلاد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، الذي ساق الله على يديه الخير للبشرية بأسرها .. وكان من الأحداث الهامة التي سبقت ميلاده ـ صلى الله عليه وسلم ـ حادثة عام الفيل، الذي وُلِدَ فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..
وقد سُمِّي عام الفيل بهذا الاسم لأنه حدث فيه قدوم أبرهة الحبشي وجيشه ومعه فِيَلة لهدم الكعبة، وقد أرسل الله على هذا الجيش طيراً أبابيل محملة بالحجارة فأهلكتهم، وهذه الحادثة ثابتة بالقرآن الكريم والسنة النبوية، وأتت تفاصيلها في كتب السِّيَر والتاريخ، وذكرها المفسرون في كتبهم، قال الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ }(الفيل 1 : 5) .
قال ابن كثير في تفسيره: " كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فإنه في ذلك العام وُلِدَ على أشهر الأقوال، ولسان حال القدر يقول: لم ننصركم ـ يا معشر قريش ـ على الحبشة لخيريتكم عليهم، ولكن صيانة للبيت العتيق الذي سنشرفه ونعظمه ونوقره ببعثة النبي الأمي محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ، خاتم الأنبياء " .

وقد أشار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى هذه الحادثة في ما رواه مسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم ـ رضي الله عنهما ـ : ( أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سار فلما دنا من الحديبية وقعت يدا راحلته على ثنيّة تهبط في غائط القوم، فبركت به راحلته، فقال الناس: حَل حَل ( كلمة تقال للناقة إذا تركت السير) , فألحت (تمادت) فقالوا: خلأت القصواء!، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخُلُق، ولكن حبسها حابس الفيل ) رواه البخاري .

والحادثة بطولها ذكرها محمد بن إسحاق وابن كثير وغيرهما في السيرة النبوية :

" أن أبرهة بن الصَّباح كان عاملا للنجاشي ملك الحبشة على اليمن، فرأى الناس يتجهزون أيام الموسم إلى مكة - شرفها الله -، فبنى كنيسة بصنعاء، وكتب إلى النجاشي : إني بنيت لك كنيسة لم يبن مثلها، ولست منتهيا حتى أصرف إليها حج العرب، فسمع به رجل من بني كنانة، فدخلها ليلا، فلطخ قبلتها بالعذرة، فقال أبرهة: من الذي اجترأ على هذا؟، قيل: رجل من أهل ذلك البيت، سمع بالذي قلتَ، فحلف أبرهة ليسيرن إلى الكعبة حتى يهدمها، وكتب إلى النجاشي يخبره بذلك، فسأله أن يبعث إليه بفيله، وكان له فيل يقال له: محمود، لم يُرَ مثله عظما وجسما وقوة، فبعث به إليه، فخرج أبرهة سائرا إلى مكة، فسمعت العرب بذلك فأعظموه، ورأوا جهاده حقا عليهم، فخرج ملك من ملوك اليمن، يقال له: ذو نفر، فقاتله. فهزمه أبرهة وأخذه أسيرا، فقال: أيها الملك استبقني خيرا لك، فاستبقاه وأوثقه .

وكان أبرهة رجلا حليما، فسار حتى إذا دنا من بلاد خثعم خرج إليه نفيل بن حبيب الخثعمي، ومن اجتمع إليه من قبائل العرب، فقاتلوه فهزمهم أبرهة، فأخذ نفيلا، فقال له: أيها الملك إنني دليلك بأرض العرب، وهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة، فاستبقني خيرا لك، فاستبقاه، وخرج معه يدله على الطريق، فلما مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال من ثقيف، فقال له: أيها الملك، نحن عبيدك، ونحن نبعث معك من يدلك، فبعثوا معه بأبي رِغال مولى لهم، فخرج حتى إذا كان بالمُغَمّس (مكان قبل مكة) مات أبو رغال، وهو الذي يرجم قبره، وبعث أبرهة رجلا من الحبشة يقال له: الأسود بن مفصود، على مقدمة خيله، وأمر بالغارة على نَعَم الناس، فجمع الأسود إليه أموال الحرم، وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير .

ثم بعث أبرهة حُناطة الحميري إلى أهل مكة فقال: سل عن شريفها ثم أبلغه أني لم آت لقتال، إنما جئت لأهدم هذا البيت، فانطلق حناطة حتى دخل مكة فلقي عبد المطلب بن هاشم فقال: إن الملك أرسلني إليك ليخبرك أنه لم يأت لقتال إلا أن تقاتلوه، إنما جاء لهدم هذا البيت ثم الانصراف عنكم، فقال عبد المطلب: ما عندنا له قتال، فقال: سنخلي بينه وبين البيت، فإن خلى الله بينه وبينه فوالله ما لنا به قوة، قال: فانطلق معي إليه، قال: فخرج معه حتى قدم المعسكر وكان ذو نفر صديقا لعبد المطلب فأتاه فقال: يا ذا نفر هل عندكم من غناء فيما نزل بنا؟ فقال: ما غناء رجل أسير لا يأمن من أن يقتل بكرة أو عشية، ولكن سأبعث لك إلى أُنيَس سائس الفيل فآمره أن يصنع لك عند الملك ما استطاع من خير، ويعظم خطرك ومنزلتك عنده، قال: فأرسل إلى أنيس فأتاه فقال: إن هذا سيد قريش صاحب عين مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في الجبال، وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فإن استطعت أن تنفعه فانفعه، فإنه صديق لي .

فدخل أنيس على أبرهة فقال: أيها الملك! هذا سيد قريش وصاحب عين مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في الجبال يستأذن عليك وأنه أحب أن تأذن له، فقد جاءك غير ناصب لك ولا مخالف عليك، فأذن له وكان عبد المطلب رجلاً عظيمًا جسيمًا وسيمًا، فلما رآه أبرهة عظمه وأكرمه، وكره أن يجلس معه على سريره وأن يجلس تحته، فهبط إلى البساط فجلس عليه معه، فقال له عبد المطلب: أيها الملك إنك قد أصبت لي مالا عظيما فاردده عليَّ، فقال له: لقد أعجبتني حين رأيتك ولقد زهدت فيك، قال: ولم؟ قال: جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك وعصمتكم ومنعتكم فأهدمه فلم تكلمني فيه، وتكلمني في مائتي بعير لك؟. قال: أنا رب هذه الإبل، ولهذا البيت رب سيمنعه، قال: ما كان ليمنعه مني، قال: فأنت وذاك، قال: فأمر بإبله فردت عليه، ثم خرج عبد المطلب وأخبر قريش الخبر وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب .

وأصبح أبرهة بالمغمس قد تهيأ للدخول وعبأ جيشه، وقرب فيله وحمل عليه ما أراد أن يحمل وهو قائم, فلما حركه وقف وكاد أن يرزم إلى الأرض فيبرك، فضربوه بالمعول في رأسه فأبى، فأدخلوا محاجن لهم تحت مراقه ومرافقه فأبى، فوجهوه إلى اليمن فهرول، فصرفوه إلى الحرم فوقف، ولحق الفيل بجبل من تلك الجبال، فأرسل الله الطير من البحر كالبلسان (شجر كثير الورق)، مع كل طير ثلاثة أحجار: حجران في رجليه وحجر في منقاره، ويحملن أمثال الحمص والعدس من الحجارة, فإذا غشين القوم أرسلنها عليهم، فلم تصب تلك الحجارة أحدا إلا هلك وليس كل القوم أصيب فذلك قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ }(الفيل1 : 5).
وبعث الله على أبرهة داء في جسده، ورجعوا سراعا يتساقطون في كل بلد، وجعل أبرهة تتساقط أنامله، كلما سقطت أنملة أتبعها مِدَّة من قيح ودم، فانتهى إلى اليمن وهو مثل فرخ الطير فيمن بقي من أصحابه، ثم مات " .

وقد ذكر ابن إسحاق أن عبد المطلب أخذ بحلقة الباب وجعل يقول :

يا رب لا أرجو لهم سواكا يا رب فامنع منهم حماكا
إن عدو البيت من عاداكا فامنعهمو أن يخربوا قواكا

وفي قصة وحادثة الفيل بيان لشرف الكعبة وحفظ الله لها، فهي أول بيت وضع للناس، قال الله تعالى: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ } (آل عمران:96)، وكيف أن مشركي العرب كانت تعظمه وتقدسه، ولا يقدمون عليه شيئا، وتعود هذه المنزلة إلى بقايا ديانة إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما الصلاة والسلام ـ .

وقد ظهر من هذه الحادثة : حسد النصارى وحقدهم على مكة، وعلى العرب الذين يعظمون هذا البيت، وعاقبة من يجتريء عليه .
قال القاسمي في محاسن التفسير: " قال القاشاني : قصة أصحاب الفيل مشهورة وواقعتهم قريبة من عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهي إحدى آيات قدرة الله، وأثر من سخطه على من اجترأ عليه بهتك حرمه " .

وحادثة الفيل من دلائل نبوة النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قال الماوردي: " آيات الملك باهرة، وشواهد النبوة ظاهرة، تشهد مباديها بالعواقب، فلا يلتبس فيها كذب بصدق، ولا منتحل بحق, وبحسب قوتها وانتشارها يكون بشائرها وإنذارها، ولما دنا مولد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعاطرت آيات نبوته، وظهرت آيات بركته، فكان من أعظمها شأنًا وأشهرها عيانًا وبيانًا أصحاب الفيل " .
وقال ابن تيمية: " وكان جيران البيت مشركين يعبدون الأوثان، ودين النصارى خير من دينهم، فعلم بذلك أن هذه الآية لم تكن لأجل جيران البيت حينئذ، بل كانت لأجل البيت، أو لأجل النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، الذي وُلِدَ في ذلك العام عند البيت، أو لمجموعهما، وأيّ ذلك كان، فهو من دلائل نبوته، فإنه إذا قيل إنما كانت آية للبيت وحفظا له وذبَّا عنه لأنه بيت الله الذي بناه إبراهيم الخليل، فقد عُلِمَ أنه ليس من أهل الملل من يحج إلى هذا البيت ويصلى إليه إلا أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ومحمد هو الذي فُرِضَ حَجُّه والصلاة إليه " ..

فائدة :

قال الماوردي: " وآية الرسول في قصة الفيل أنه كان في زمانه حَمْلا في بطن أمه بمكة، لأنه وُلِدَ بعد خمسين يومًا من الفيل، وبعد موت أبيه في يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول، فكانت آية في ذلك من وجهين :
أحدهما: أنهم لو ظفروا لسبوا واسترقوا، فأهلكهم الله تعالى لصيانة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يجري عليه السبي حملاً ووليدًا .
والثاني: أنه لم يكن لقريش من التأله ما يستحقون به رفع أصحاب الفيل عنهم، وما هم أهل كتاب، لأنهم كانوا بين عابد صنم، أو متدين وثن، أو قائل بالزندقة، أو مانع من الرجعة، ولكن لِمَا أراد الله تعالى من ظهور الإسلام، تأسيسا للنبوة، وتعظيمًا للكعبة، وأن يجعلها قبلة للصلاة ومنسكا للحج .. فإن قيل: فكيف منع عن الكعبة قبل مصيرها قِبْلة ومنسكا، ولم يمنع الحَجَّاج من هدمها وقد صارت قِبلة ومنسكا حتى أحرقها ونصب المنجنيق عليها ؟!..
قيل: فِعْل الحجّاج كان بعد استقرار الدين فاستُغْنِىَ عن آيات تأسيسه، وأصحاب الفيل كانوا قبل ظهور النبوة، فجُعِلَ المنع منها آية لتأسيس النبوة ومجيء الرسالة، على أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أنذر بهدمها، فصار الهدم آية بعد أن كان المنع آية، فلذلك اختلف حكمهما في الحالين والله تعالى أعلم " ..

لقد كان مولد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نذيرا بزوال دولة الشرك والظلم، وبداية لنشر الخير والعدل بين الناس، وكانت حادثة الفيل من دلائل وبشارات نبوته قبل مولده ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ..

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة