الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حسن التخلص إلى مقصود القصيد

حسن التخلص إلى مقصود القصيد

حسن التخلص إلى مقصود القصيد

لم يعرف النمط التقليدي للقصيدة العربية وحدة الموضوع أو الأسلوب المباشر في التعبير عن الهدف والغاية من النظم القصائدي، بل كان يتحتم على الشاعر البدء بمقدمة وصفية تستغرق مساحة غير قليلة من مجموع أبيات القصيدة، وربما استوعبت هذه المقدمة مساحة 20% أو أكثر في بعض القصائد الطوال، حتى إذا ما انتهى الشاعر من هذه المقدمة وأراد الولوج إلى هدفه الرئيس فإنه ينسلت إليه بنعومة لا تنبه السامع إلى تنافر في الموضوعات أو خشونة في الانتقال؛ عبر ما يسمى عند البلاغيين ب(حسن التخلص)، والذي يعرف بأنه: انتقال الشاعر مما ابتدئ به الكلام إلى المقصود على وجه سهل يختلسه اختلاسا دقيق المعنى بحيث لا يشعر السامع بالانتقال من المعنى الأول إلا قد وقع في الثاني لشدة الالتئام بينهما .

وحسن التخلص الذي سنعطي لمحة تحليلية عنه يعتبر ملمحا مهما من ملامح الإبداع في النص الشعري العربي، كما أنه يمثل من ناحية أخرى حاجزا إبداعيا و"مطبا اصطناعيا" يصعب تخطيه على غير ذوي الملكات الإبداعية الشعرية الفذة، ذلك أن الأغراض الشعرية التي يقصد الشاعر تتنوع من المدح إلى الفخر إلى الحماسة إلى الهجاء ... إلى غير ذلك، بينما المقدمات التقليدية محصورة المطالع ويتحتم على الشاعر أن يبدأ بهذه المقدمات التقليدية قبل أن يعبر عن هدفه الرئيس الذي يريد.

والنماذج الإبداعية في استخدام حسن التخلص كثيرة جدا ويسهل الإطلاع عليها بمراجعة أي من قصائد فحول الشعراء العرب في أي من العصور الأدبية فقل أن تخلو منها قصيدة، ومن النماذج المميزة منها قول قول محمد بن وهيب:
حتَّى اسْتَرَدَّ الليلُ خلِعَتَهُ ... وبدا جِلاَلَ سوادِهِ وَضَحُ
وبَدا الصَّبَاحُ كأنَّ غُرَّتَهُ ... وَجْهُ الخَلِيفَة حينَ يُمْتَدَحُ
وقال البحتري وقد أراد أن يمدح الخليفة المتوكل فبدأ بمقدمة غزلية شكا فيها لمعشوقته طول سهره واتصال سهاده في حبها، ثم قال موجها الخطاب للبرق القادم من نحو ديارها:
قد قلت للغيث الرّكام ولج في إبراقه وألحّ في إرعاده
لا تعرضنّ لجعفر متشبِّها بندى يديه فلست من أندَاده
اللَهُ شَرَّفَهُ وَأَعلى ذِكرَهُ وَرَآهُ غَيثَ عِبادِهِ وَبِلادِهِ

كان ذلكم هو البرتوكول العام الذي ارتضاه معظم النقاد وأقرته ندوات الأسواق الأدبية وأخذت به جل مدارس الشعر التقليدي، إلا أن بعض المرويات التاريخية تشير إلى بروز تذمر من هذا النمط الواحد المتكرر للنظم القصائدي، وخفوت لمعانه الأدبية لكثرة تكرار الشعراء لاستخدامه، وسنذكر في هذا الإطار قصة وقعت في أوج ازدهار هذا الفن الأدبي نستعرضها من زاويتين مختلفتين لنستنتج من تحليلها الانطباع العام حول استخدام هذا الأسلوب البديعي في تلك الأوساط الأدبية، وذلك على النحو التالي:
اللقطة الأولى:
روى العتبي قال: رؤي مروان بن أبي حفصة الشاعر واقفا بباب الجسر، كئيبا آسفا، ينكت بسوطه على عنق دابته فقيل له: يا أبا السمط ما الذي نراه بك؟ قال: أخبركم بالعجب! مدحت أمير المؤمنين فوصفت له ناقتي من خطامها إلى خفيها، ووصفت الفيافي من اليمامة إلى بابه أرضا أرضا، ورملة رملة، حتى إذا أشفيت منه على غناء الدهر، جاء ابن بياعة النخاخير - يعنى أبا العتاهية - فأنشده بيتين فضعضع بهما شعري، وسواه في الجائزة بي! فقيل له: وما البيتان؟ فأنشد:
إن المطايا تشتكيك لأنها ... تطوي إليك سباسبا ورمالا
فإذا رحلن بنا رحلن مخفة ... وإذا رجعن بنا رجعن ثقالا

اللقطة الثانية: روي أنّ عمر بن العلاء لما مدحه أبو العتاهية وصله بسبعين ألف درهم، وخلع عليه حتى لم يستطع أن يقوم، فحسدته الشعراء، وقالوا: لنا بباب الأمير أعوام نخدم الآمال، ما وصلنا إلى بعض هذا! فاتصل ذلك به، فأمر بإحضارهم، ثم قال: بلغنى الذى قلتم؛ عجباً لكم معشر الشعراء ما أشد حسد بعضكم لبعض، إن أحدكم يأتينا ليمدحنا فينسب ويتغزل في قصيدته بصديقته بخمسين بيتنا فما يبلغنا حتى تذهب لذاذة مدحه ورونق شعره.

تبرز هذه الصورة بوضوح تذمر نقاد وخبراء الأدب في عصور متقدمة (أواسط القرن الثاني للهجرة) بهذه المقدمات الكلاسيكية، وتنويههم إلى إمكانية التخلي عنها أحيانا، خاصة وأنها تأتي متكلفة في بعض الأحايين، كما أنها تظهر لمحة التجديد الذي أتى به أبو العتاهية ليحرك الركود السائد في بحور وأساليب الشعر في زمانه، ثم إنها من ناحية ثالثة تبرز تقبل النقاد لمسحات ولمسات التجديد وتشجيعهم لأرباب الملكات الفذة؛ دفعا لعجلة التقدم في مجالات الفنون والإبداع الأدبي.

على أن حسن التخلص والخروج إلى مقصود الكلام يبقى فنا من الفنون الإبداعية التي تستحق التوقف عندها والإشادة بها؛ ذلك لأنه عندما ما يبتدئ المتكلم بغير الغرض المقصود من كلامه، ثم ينتقل مما ابتدأ به إلى غرضه يُبرِز هذا الانتقال مقدرات الشاعر الأدبية والإبداعية، كما يجدر التنبيه إلى أن حسن التخلص له فنون عدة، منها أن الشاعر أثناء التكلم قد ينتقل من معنًى لآخر ثم يعود للمعنى الذي انتقل منه، ويسمى هذا استطرادًا، وقد يتحدث عن معنى من المعاني ويستتبع ذلك الحديث عن معنًى آخر، أو يدمج معنًى في معنى، أو يُضمن كلامه كلام الغير، أو يقتبس من القرآن والحديث، وعندئذٍ ينبغي للمتكلم أن يتأنق في خروجه، وأن يلائم في استطراده، وأن يراعي المناسبة في استتباعه، أو إدماجه، أو اقتباسه، أو تضمينه.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة