الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

من الفوائد العظيمة لمبدأ النسخ

  • الكاتب:
  • التصنيف:في ظلال آية

من الفوائد العظيمة لمبدأ النسخ

من الفوائد العظيمة لمبدأ النسخ

من أعظم الفوائد لمبدأ النسخ أنه دليلٌ على أن الشريعة منزلة لمصلحة العالم، ونأخذ هذا من قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106]، كل ما جاء من عند الله فهو خير للعالم، وأنفع لهم، وأرفق بهم سواء أكان ذلك هو الشريعة السابقة أو الشريعة اللاحقة، ولبيان ذلك من هذه الآية نقول:

اختلف القراء العشرة في قراءة هذه الآية في موضعين، ومن خلال هذه القراءات الواردة تنتج لنا معانٍ متعددة توضح مشاهد مختلفة:

الموضع الأول: ( نُنْسخ ) فقرأ ابن عامر بضم نون المضارعة وكسر السين مضارع أنسخ أي نأمر بنسخ، والباقون بفتحهما مضارع نَسخ، والنسخ في الآية عند أهل اللغة والمفسرين يأتي للمعنيين الآتيين:

المعنى الأول: النقل والتحويل يقال: نسخ الشيءَ ينسَخُه نَسْخاً أي نقله:سواء أكان النقل للشيء بذاته فيقال: نسخت الشمس الظل أين نقلته من مكان إلى مكان.
أو كان النقل بصورته كنسخ الكتاب أي نقل ما تضمنه من كتابة إلى مكان آخر.
ومنه تناسخ المواريث تحويل الميراث من واحد إلى واحد، ومنه تناسخ الأرواح وتناسخ القرون قرنا بعد قَرن، ومنه قوله تعالى: {هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الْجَاثِيَةِ:29].

والمقصود بها هنا:

- أَي نستنسخ ما تكتب الحفظة فيثبت عند الله.

- أو يكون المعنى نستنسخ أعمالكم فنكتبها على يد الحفظة فلا يخفى منها شيء كما يستنسخ الكتاب فنأْمر بنسخ ما عملتم وإِثباته.

فعلى هذا الوجه كل القرآن منسوخ لأنه نسخ من اللوح المحفوظـ، أو لأن الصحابة تنسخه بكتابته عندما يبلغه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

المعنى الثاني: الرفع والإزالة أي إِبطال الشيء وإِقامة آخر مقامه، ومنه يقال نسخت الشمس الظل إذا ذهبت به وأبطلته، ومن ذلك قوله تَعَالَى: {إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ} [الْحَجِّ:52] أي يزيله ويبطله، وفي خطبة عتبة بن غزوان: ((وإنها لم تكن نبوة قَط إلا تناسخت حتى يكون آخر عاقبتها ملكا)) أَي تحولت من حال إِلى حال يعني أَمر الأُمة وتغاير أحوالها، ويكون المعنى للآية: نرفع العمل بحكم تضمنته آية، فعلى هذا يكون بعض القرآن ناسخا وبعضه منسوخا لأن بعض أحكامه رفعت أحكاماً أخرى، وأبرز مثال على النسخ في القرآن بهذا المعنى مما يكاد أن يتفق عليه هو قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [المجادلة:12 ،13].سواء أكان النسخ هنا بمعنى الإزالة الكلية أو الجزئية وهو التخصيص أي تخصيص الحكم باختلاف الأحوال.

والآية هي: الدليل والشاهد عَلَى أَمر، وفي الاستعمال القرآني تأتي بمعنى الحجة والبرهان كما قال تعالى: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} [الأعراف:73]، وتطلق الآية على القطعة من القرآن المشتملة على حكم شرعي أو موعظة أو نحو ذلك، ومنه قوله تَعَالَى: {وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النَّحْل:101].

الموضع الثاني: (ننسها):
وفيها قراءتان:
القراءة الأولى: فابن كثير وأبو عمرو بفتح النون والسين وهمزة ساكنة تليها من النسء فتكون قراءتهم (ننسأها) وهي مشتقة من نسأ، وهذه المفردة تأتي لعدة معان ومنها:

التأخير، والزجر، والتسمين، وأجمع المفسرون على أن المراد هنا التأخير، ومن ذلك قولهم نسئت المرأَة تنسَأ نسأ تأخر حيضها عن وقته، والاسم النيسئة، ونسأ اللّه في أَجله وأنسأ أجله أخره، ومن ذلك حديث أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال : سمعت رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سره أن يبسط له رزقه، أو ينسأ له في أثرِه فليصل رحمه)) رواه البخاري ومسلم، ومن ذلك حديث أبي هريرة : عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: ((تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم فإن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر)) رواه الترمذي وغيره، ومنسأة هي مفعلة منه أَي مظنة للتأخير، ومن ذلك النسيء وهو الشي المؤخر ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة :37]، أي التأخير الذي كان يعبث به المشركون في توقيت شهورهم، وذلك أَن العرب كانوا إِذا صدروا عن منى يقوم رجل منهم من كنانة فيقول: أَنا الذي لا أعاب ولا أجاب ولا يرد لي قضاء فيقولون: صدقت أنسئنا شهرا أَي أخر عنا حرمة الـمحرم واجعلها في صَفَر وأحل الـمحرم لأَنهم كانوا يَكرهون أَن يَتوالى عليهم ثلاثة أَشهر حرم لا يغيرون فيها لأن معاشهم كان من الغارة فيحِل لهم المحرم فذلك الإِنساء، ومن ذلك قول عمير بن قيس بن جذل الطعان:

ألسنا الناسئين على معد ... شهور الحل نجعلها حراما

إذن فيكون معنى ننسأها في قراءة أبي عمرو وابن كثير: ما ننسخ لك من اللوح الـمـحفوظ من آية فننزلها عليك أو نؤخرها ولا ننزلها، وهذا يوافق قوله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم :64].

وقد صورت القراءة مشهداً عجيباً حيث بينت أن تأخير إنزال الآية التي تتحدث عن أمرٍ ينتظر نزول الوحي بشأنه مقصودٌ لذاته لحكم بالغة، ومن المواقف النبوية التي حدث فيها ما نظنه كبشرٍ تأخيراً في نزول آياتٍ تتحدث عنه قصة الإفك فإن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: ((وقَد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأني شيء)).

القراءة الثانية: ننسها: قرأها جمهور القراء بضم النون وكسر السين بلا همز، وبين اللغويون والمفسرون كالفرَّاء وغيره أن ننسها مشتقة من النّسيان، وهو يأتي على معنيين:

النسيان بمعنى الترك، والنسيان الذهول ضد التذكر، وبذا يكون للآية المعاني الآتية:


المعنى الأول: النسيان بمعنى الترك كما قال اللّه جل ذكره : {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] يريد تركوه فتركهم، {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه:155] أَيْ فترك، وَقَال: {فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الْأَعْرَافِ:51] أي نتركهم كما تركوا، ومنه قولهُ تعالى: {ولا تَنْسَوا الفَضْلَ بَيْنكم}؛ فكأن المعنى: ما ننسخ من آية أو نتركها دون نسخ فلا نرفع حكمها، ولذا قال الطبري: "والصواب من القول في معنى ذلك عندنا: ما نبدل من حكم آيةٍ فنغيره، أو نترك تبديله فنقره بحاله" ثم أسند عن ابن عباس في قوله: (أو ننسها)، يقول: أو نتركها لا نبدلها".

المعنى الثاني: نتركها فلا ننـزلها عليك حتى يتعجب المشركون لماذا لم تنزل آية في موقف معين، فالنسيان بمعنى الترك أيضاً، ولكن بإفادة معنى ثانٍ، وهذا الترك للآية قد يكون كلياً فلا ينـزل شيء في أمر معين كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها)) رواه البيهقي وغيره، وهنا تكون الفائدة ظاهرة في ترك أشياء كثيرة يود بعضنا أن لو نزل فيها شيء، والله العليم الخبير يعلم أن مصلحة الأمة في عدم نزول شيء فيها، كموضوع النص في خلافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن الرزيةَ كل الرزِية ما حال بين رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم وبين كتابه)، وبموجب هذه الآية المحكمة يكون رأي ابن عباس رضي الله عنه –مع ما يحمل من تلهف- لا محل له؛ إذ لو كان ما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبلغه ثمة خيرٌ في تبليغه لما تركه لو اجتمعت الدنيا عليه؛ إذ البلاغ واجب عليه، ولكن تركه له فيه كل المصلحة كوجود الشورى بعده في اختيار الخليفة.

وقد يكون هذا الترك مؤقتاً، ومن ذلك تأخر نزول القرآن –في ظننا نحن كبشر- في مسألة معينة فيؤول إلى المعنى الذي أمدته قراءة (ننسأها) في أول الوحي، وتصور هذه القراءة بهذا المعنى مواقف حدثت في حياة النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- كان يتوقع المشركون فيها نزول آية أو آيات من القرآن فلم تنـزل فسخروا واستهزؤوا، فوضع الله لنا في هذه الآية قاعدة للموقف، وهذه القاعدة واضحة في أن الله لا يترك إنزال آية إلا لخير منها أو مثلها، ومن هذه المواقف موقف الإفك السابق ذكره، ومنه ما رواه جندب بن عبد الله رضي اللَّه عنه قال: احتبس جبريل صلى الله عليه وآله وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَتِ: امرأة من قريش أبطأ عليه شيطانه، فنزلت {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}.

المعنى الثالث: يمكن أن يكون للآية معنى ثالثاً على مفهوم الترك، وهو نتركها فلا ننزلها عليك حتى تشتاق لإنزالها: وترك إنزالها حتى يشتاق إليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم خير له، وأهدى سبيلاً، وقد صورت الآية هذا الموقف وفق هذا المعنى للقراءة، وبينت السنة الصحيحة تفصيلاً لهذا المشهد التصويري للآية فيما رواه ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم : لجبريل ألا تزورنا أكثر مما تزورنا قَال فنزلت {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} الآيَةَ.

المعنى الرابع: مِن النِّسْيان ضد الذكر: {ننسها} لكم أي نجعلكم ناسين لها تغفلونها فلا تذكرونها، حتى يكون غيرها خيراً منها أو مثلها آية أو تشريعاً، والقراءة بهذا المعنى صورت مشهداً رائعاً من مشاهد الحياة النبوية، فقد كان النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- يخبُر وحياً عن أمرٍ محدد فيقوم فرحاً بالوحي يريد أن يبلغه لأمته فينسيه الله إياها لحكمةٍ بالغة، وهذا أحد المعاني الداخلة في قوله سبحانه { سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} [الأعلى :6 ، 7]، ومن المواقف النبوية التي صورتها هذه القراءة بهذا المعنى الرائع ما رواه عبادة بن الصامت أن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم خرج يخبر بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين فقال: ((إني خرجت لأخبركم بليلة القدرِ، وإنه تلاحى فلان وفلاَن فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم التمسوها في السبع والتسع والخمس)) رواه البخاري .

وقد قال بعضهم: إن النسيان ضد التذكر مراد من هذه القراءة أيضاً على معنى نجعلكم تسهون عنها مؤقتاً ولا تسهو عنها الأمة بمجموعها، ومن ذلك قوله تعالى: {سَنُقْرِئك فلا تَنْسَى إلا ما شاءَ الله}، وهذا على أحد المعاني الواردة في هذا الموضع من سورة الأعلى.

وفي كل ذلك فإن الله لا ينسخ آية أو يتركها أو يؤخر إنزالها إلا أتى بخير منها أو مثلها كما قال ابن عباس (نأت بخير منها أو مثلها)، يقول: "خيرٍ لكم في المنفعة، وأرفق بكم"

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة