الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

فما لكم في المنافقين فئتين

فما لكم في المنافقين فئتين

فما لكم في المنافقين فئتين

في سورة النساء آية تحدثت عن اختلاف موقف المسلمين من المنافقين، جاء ذلك في قوله سبحانه: {فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا} (النساء:88) نقف مع سبب نزول هذه الآية.

يذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية عدة روايات، نثبت منها التالي:

الرواية الأولى: ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أُحُدٍ، رجع ناس ممن خرج معه، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرقتين: فرقة تقول: نقاتلهم، وفرقة تقول: لا نقاتلهم، فنزلت: {فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا} وقال: (إنها طَيْبَةُ، تنفي الذنوب، كما تنفي النار خبث الفضة) هذه الرواية أصح ما قيل في سبب نزول هذه الآية من جهة السند والثبوت.

الرواية الثانية: روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن عوف، أن قوماً من العرب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأسلموا، وأصابهم وباء بالمدينة حماها، فأركسوا -أي: ردوا ورجعوا- فخرجوا من المدينة، فاستقبلهم نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا لهم: ما لكم رجعتم؟ قالوا: أصابنا وباء المدينة، فاجتوينا المدينة -أي: كرهنا المقام بها- فقالوا: أما لكم في رسول الله أسوة؟ فقال بعضهم: نافقوا، وقال بعضهم: لم ينافقوا، هم مسلمون، فأنزل الله عز وجل: {فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا} الآية، قال محققو المسند: إسناده ضعيف.

الرواية الثالثة: روى الطبري عن مجاهد، قال: قوم خرجوا من مكة، حتى أتوا المدينة، يزعمون أنهم مهاجرون، ثم ارتدوا بعد ذلك، فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها. فاختلف فيهم المؤمنون، فقائل يقول: هم منافقون، وقائل يقول: هم مؤمنون. فبين الله نفاقهم، فأمر بقتالهم، فجاؤوا ببضائعهم يريدون المدينة، فلقيهم علي بن عويمر، أو: هلال بن عويمر الأسلمي، وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم حِلْفٌ -وهو الذي حصر صدره أن يقاتل المؤمنين، أو يقاتل قومه- فدفع عنهم بأنهم يؤمُّون هلالاً، وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد. وقد ذكر ابن عطية، وتابعه القرطبي هذه الرواية مع بعض التفصيل عن ابن عباس رضي الله عنهما.

الرواية الرابعة: روى الطبري أيضاً عن الضحاك، قال: هم ناس تخلفوا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، وأقاموا بمكة، وأعلنوا الإيمان، ولم يهاجروا، فاختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتولاهم ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبرأ من ولايتهم آخرون.

هذا خلاصة ما ذُكر في الآية الكريمة من أسباب نزولها، ولا بد فيها من تأمل ونظر، والبداية بحديث زيد بن ثابت رضي الله عنه؛ فإن الحديث نص في أن القصة كانت في غزوة أُحُدٍ، وأنها كانت بسبب رجوع رأس المنافقين عبد الله بن أُبي بن سلول بثلث الجيش، وإذا نظرنا إلى مطابقة هذه القصة للآية التي معنا، والتي قيل إنها نزلت بسببها، وجدنا أنه لا تعارض بينهما، لكن الآية التي معنا متصلة بما بعدها اتصالاً وثيقاً، فالله عز وجل يقول في الآية التالية: {ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا} (النساء:89).

وقد نص عدد من المفسرين على أن الضمير في قوله سبحانه: {ودوا} يعود على المنافقين؛ قال الطبري: {ودوا لو تكفرون كما كفروا} أي: تمنى هؤلاء المنافقون الذين أنتم أيها المؤمنون فيهم فئتان أن تكفروا". وقال القرطبي: "أي تمنوا أن تكونوا كهم في الكفر والنفاق شرع سواء". وقال ابن عاشور: "الأظهر أن ضمير {ودوا} عائد إلى المنافقين في قوله: {فما لكم في المنافقين فئتين}.

وإذا كان ذلك كذلك، فإن الله اشترط لولايتهم أن يهاجروا في سبيل الله في قوله: {فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله} وأمر بأخذهم وقتلهم حيث وجدوا، إن هم تولوا عن الهجرة في قوله: {فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم} وهنا ينشأ إشكالات:

الأول: اشتراط الهجرة؛ فإن سبب نزول الآية ليس فيه ذكر الهجرة مطلقاً، وإنما فيه التخلف عن الجهاد؛ ولهذا أول ابن العربي (الهجرة في سبيل الله) هنا بهجر الأهل، والولد، والمال، والجهاد في سبيل الله.

الثاني: سبب النزول يتحدث عن منافقي المدينة، والآية تتناول الهجرة في سبيل الله، وعلى هذا فإلى أي مكان يهاجر منافقو المدينة، إذا كانوا هم مقيمين في بلد الهجرة؛ ولهذا قال الطبري: "فأما من كان بالمدينة في دار الهجرة مقيماً من المنافقين وأهل الشرك، فلم يكن عليه فرض هجرة؛ لأنه في دار الهجرة كان وطنه ومقامه".

الثالث: أن الله عز وجل أمر بأخذهم وقتلهم حيث وجِدوا، إذا تولوا عن الهجرة في سبيله، والآية تتحدث عن منافقين، وليس يخفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقتل المنافقين، أو يأذن في قتلهم مع بشاعة ما صنعوا؛ مخافة أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه.

فبأي وجه من الوجوه وافق سبب النزول الوارد في حديث زيد رضي الله عنه سياق الآيات وطابق؟

وأما حديث عبد الرحمن بن عوف في القوم الذي اجتووا المدينة، فخرجوا منها، فاختلف الصحابة فيهم، فنزلت الآية، فالحديث ضعيف كما تقدم، فلا يحتج به على السببية. ثم إن هؤلاء قد هاجروا إلى المدينة، فلا يبقى معنى لقوله سبحانه: {حتى يهاجروا في سبيل الله}.

وبالنظر إلى ما تقدم، فالأمر دائر بين ما رواه الطبري عن مجاهد، والضحاك؛ لموافقته السياق القرآني للآيات، وبالنظر للحقائق التالية:

1- أن هؤلاء منافقون، يُظهرون الإسلام والإيمان، ويُبطنون الكفر؛ لقوله سبحانه: {فما لكم في المنافقين فئتين} وقوله: {ودوا لو تكفرون كما كفروا}.

2- أن هؤلاء مطالَبون بالهجرة في سبيل الله لإثبات إيمانهم، فليسوا من منافقي المدينة في شيء؛ لأنهم غير مطالبين بالهجرة، وسواء كانت هجرتهم من مكة، أو غيرها، فالآية لم تعين شيئاً.

3- أن هؤلاء المنافقين إن لم يهاجروا في سبيل الله إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاز أخذهم وقتلهم حيث وُجِدوا.

والمروي عن مجاهد والضحاك يوافق الحقائق السابقة، وإن كان قول مجاهد أقرب للصواب؛ لأن الله قال: {فما لكم في المنافقين فئتين} و(أل) التعريف بالمنافقين للعهد الذهني، أي المعهودون في أذهانكم، وهذا يوافق قول مجاهد: (حتى أتوا المدينة، يزعمون أنهم مهاجرون، فارتدوا) فالصحابة يعرفونهم، بخلاف من ذكر الضحاك أنهم مقيمون في مكة.

فإن قال قائل: كيف يستقيم الإعراض عن حديث يرويه البخاري ومسلم، نص على أن سبب نزول الآية كذا، ثم يقال: ليس هو سبب نزولها؟

فالجواب: أن القرآن يَحْكُم ولا يُحْكَم عليه، وليس في هذا المسلك طعن في حديث رواه الشيخان، بل غاية ما في الأمر تضعيف دلالته على النزول؛ لأن الله قال: {ومن أصدق من الله حديثا} (النساء:87) وقال: {ومن أصدق من الله قيلا} (النساء:122) وإذا كان الله قد بين صفة من نزلت فيه بياناً يخالف ما رواه زيد رضي الله عنه، فحتماً -ولا بد- أن يكون قول ربنا هو المقدم على قول كل أحد.

قال الطبري بعد أن نقل الروايات الواردة في سبب نزول هذه الآية، قال: "وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك، قول من قال: نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب؛ لأن اختلاف أهل التأويل في ذلك إنما هو على قولين: أحدهما: أنهم قوم كانوا من أهل مكة، على ما قد ذكرنا الرواية عنهم. والآخر: أنهم قوم كانوا من أهل المدينة. وفي قول الله تعالى ذكره: {فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا}، أوضح الدليل على أنهم كانوا من غير أهل المدينة؛ لأن الهجرة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى داره ومدينته من سائر أرض الكفر. فأما من كان بالمدينة في دار الهجرة مقيماً من المنافقين وأهل الشرك، فلم يكن عليه فرض هجرة؛ لأنه في دار الهجرة كان وطنه ومقامه".

وما اختاره الطبري جرى عليه أكثر المفسرين كابن عطية، والقرطبي، والسعدي، وابن عاشور؛ أما غيرهم فقد ساق الأسباب، وسكت عن الترجيح.

أما ابن العربي فمال إلى حديث زيد بن ثابت، فقال بعد أن ساق الأسباب: "والصحيح ما رواه زيد". وكذلك فعل ابن حجر فقد قال: "هذا هو الصحيح في سبب نزولها" يعني حديث زيد.
وحاصل القول: إن سبب نزول الآية الكريمة ما ذكره مجاهد؛ لصحة إسناده إليه، وموافقته للسياق القرآني، وأقوال المفسرين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة