الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

المماليك : التجليات الأخيرة للحضارة الإسلامية (1)

المماليك : التجليات الأخيرة للحضارة الإسلامية (1)

المماليك : التجليات الأخيرة للحضارة الإسلامية (1)

يرتبط مصطلح المماليك فى أذهان عامة المثقفين من أبناء العالم العربي بصورة غامضة بفرسان يمتطون خيولهم القوية المعربدة فى غطرسة وجبروت فى شوارع المدن ، تروع الناس ، تنشر الرعب والظلم ، وتنهب العباد ، وتخرب البلاد ….
هذه الصورة الظالمة ابتدعها خيال مريض تحكم فى رؤية معظم المستشرقين لهذا العصر وأهله : فالمماليك لم يكونا همجا ، ولم يكن قطز ، أو بيبرس ، أو قلاون أو ابنه الأشرف خليل قوما ظالمين ؛ ولكنهم تصدوا للصليبيين والمغول ؛ فقضوا على الوجود الصليبي على الأرض العربية …. ولم يكن الغربيون لينسوا هذا . وكانوا أيضا هم الذين حولوا المغول إلى قوة فى خدمة الحضارة الإسلامية … ولم يكن أهل الغرب لينسوا هذا أيضا .
وهدف هذه الحلقات الوثائقية أن تنير صفحات التاريخ التى كتبها رجال ذلك العصر : من سلاطين المماليك وفرسانهم إلى عامة الناس العاديين من صناع الحضارة – مفكرين ، وأدباء ، مؤرخين وفنانين ، فلاحين وحرفيين .. وسو ف تتناول أربعة جوانب من جوانب الحياة فى ذلك العصر فى محاولة لاستعادة صورته الكلية من ذمة الماضى . ومع أن المسألة ليست سهلة فإنها ليست مستحيلة أيضا .

من هم المماليك ؟ وكيف تحولوا من عبيد اختطفوا أطفالا من بلادهم إلى حكام يحكمون أقوى دولة إقليمية على مدى أكثر من مائتين وسبعين سنة ؟ إنهم فرسان الإسلام وحماة الحضارة العربية الإسلامية فى المرحلة الأخيرة من عمرها ، قبل أن يطوى العثمانيون العالم العربي داخل دولتهم الصاعدة ، ويحكمونه منذ بدايات القرن السادس عشر وحتى بدايات القرن العشرين . حقيقة أن العثمانيين دافعوا عن العالم العربي والإسلامي ضد الأطماع الأوربية ؛ ولكنهم لم يستطيعوا شيئا لإعادة بث الحياة فى الحضارة العربية الإسلامية التى دخلت مرحلة الذبول والأفول منذ نهايات عصر سلاطين المماليك .

تتناول الفكرة الأولى الإجابة على هذا السؤال ؛ وما يتبعه بالضرورة من البحث فى أصول هذا النظام العسكري السياسي ، وكيفية ظهور أهمية السياسية فى أثناء الصراع بين أبناء البيت الأيوبي ، حتى تبناهم الصالح نجم الدين أيوب واستخدمهم وسيلة فى حسم أمور الحرب والسياسة بدلا من المرتزقة الذين أذاقوه مرارة الخيانة فى حروبه ضد أقاربه الأيوبيين ، وأوقعوه فى براثن الهزيمة . وفى إيجاز ، تعرض الحلقة لدورهم فى كل من معركة فارسكور والمنصورة ضد الحملة الصليبية بقيادة لويس التاسع وهزيمة تلك الحملة وأسر الملك الصليبي بعدما تمزقت قواته بين قتيل وأسير ، ومعركة عين جالوت بعدها بعشر سنوات وصد الهجوم المغولي على المنطقة العربية بعد ما داست جحافلهم على الخلافة العباسية فى بغداد .

بيد أن الحرب لم تكن فضيلة المماليك الوحيدة ؛ فقد كان سلاطينهم العظام ( شجر الدر ، وعز الدين أيبك ، وسيف الدين قطز ، والظاهر بيبرس ، والمنصور قلاون ، وأولاده وأحفاده الأشرف خليل ، والناصر محمد ، الناصر حسن …. وغيرهم ) أهل حرب وسياسة ، وأصحاب حنكة دبلوماسية ورؤية اقتصادية ، من الحكام الذين انتعشت الأحوال تحت حكمهم وساد الأمن ربوع دولتهم التى امتدت من أعالى الشام والعراق شمالا حتى اليمن ومياه بحر العرب جنوبا ، ومن دجلة والفرات شرقا حتى مناطق ليبيا الحالية غربا .

لقد وحدوا هذه المنطقة ، وشجعوا التجار على القدوم إليها ، وجعلوا عواصم دولتهم مقصدا لطلاب العلم والعلماء ، والتجار والحكماء والأطباء ، والفنانين والأدباء والشعراء . وفى ذلك العصر ساد نوع من “السلام الإسلامي ” الذى كفل حرية التجارة وانتقال الأفراد ورؤوس الأموال . وكانت عاصمتهم القاهرة مقصد السفراء والرسل من أوربا الكاثوليكية وبيزنطة الأرثوذكسية ، والحبشة الأرثوذكسية ؛ فضلا عن حكام العالم المسلم المعاصر …. تطلب صداقتهم وتخطب ودهم .
لقد كانت دولة سلاطين المماليك فى الشطر الأول من حياتها دولة قوية مزدهرة فى الداخل ، مهابة ومحترمة فى الخارج.
تتحدث الفكرة الثانية عن السلطة والناس فى عصر سلاطين المماليك . فقد قال ابن خلدون إن الحكم فى ذلك العصر ” سلطان ورعية ” ؛ وهو ما يعنى أن التقسيم الطبقي فى ذلك العصر كان قائما على أساس أن السلطة تمركزت بأيدى أرباب السيوف من السلطان وأمرائه ومماليكه الذين تولوا إدارة البلاد وكانوا يتولون الدفاع عنها ضد الخارج ونشر الأمن فى الداخل.

وكان يساعدهم أهل البلاد من أرباب الأقلام فى المالية والإدارة والتشريع ، والحسبة…. وما إلى ذلك . ولا تعنى هذه الحلقة بمناقشة هذه الأمور ، وإنما تبين أن السلطة كان عليها أن تضمن السلام على الحدود وفى الداخل وتشجع النشاط الاقتصادي بكل فروعه …. وهو ما كان قائما حتى السنوات الثمانين الأخيرة من ذلك العصر المثير . ومن ناحية أخرى ، كان الناس يتولون إنتاج الحضارة بجناحيها المادي واللامادي . كان الناس منصرفين إلى إنتاج تلك الفنون الرائعة التى تشهد عليها الآثار الموجودة فى عواصم تلك الدولة فى مصر وفلسطين والشام والحجاز … وغيرها وما تضمه متاحف العالم الحديث من مقتنيات أنتجها فنانو ذلك الزمان .

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة