الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هلا مع صاحب الحق كنتم

هلا مع صاحب الحق كنتم

هلا مع صاحب الحق كنتم


الحقوق بين الناس لها قداسة في الإسلام، من حيث احترامها، وحسن أدائها، والحذر من التفريط فيها، وعلى قدر تقديس الأمة لمبدأ الحقوق يعظم شأنها وقدرها، وبالمقابل فإن تضييع الحقوق والتهاون بها علامة على هوان الأمة، وضعف بنيانها، واهتراء علاقاتها، وقد قامت العلاقات بين الناس على مبدأ الثنائية بين الحقوق والواجبات، فالفرد يبذل الواجب الذي عليه، ويأخذ الحق الذي له، فالمقرض -مثلاً- له حق المطالبة بحقه في أجله، وعلى المقترض حسن الأداء، فيضمن رأس المال، ويمتلك ما نتج عنه إن كان استثمره أو نماه، وللمقترض حق الاقتضاء دون المطالبة بما زاد عن حقه وإلا كان ربا، وهكذا تتمايز الحقوق والواجبات، فلا يطغى صاحب الحق، ولا يتعسف في مطالبته، وبالمقابل يبذل من عليه الواجب دون مماطلة أو خصومة، وقل مثل ذلك في باقي العقود والتعاملات.

روى البيهقي وابن ماجة عن أبي سعيد الخدري، قال: جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يتقاضاه دينا كان عليه، فاشتد عليه، حتى قال له: أُحَرِّجُ عليك إلا قضيتني، فانتهره أصحابه، وقالوا: ويحك تدري من تكلم؟ قال: إني أطلب حقي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «هلا مع صاحب الحق كنتم؟» ثم أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها: «إن كان عندك تمر فأقرضينا حتى يأتينا تمرنا فنقضيك» ، فقالت: نعم، بأبي أنت يا رسول الله، قال: فأقرضته، فقضى الأعرابي وأطعمه، فقال: أوفيت، أوفى الله لك، فقال: «أولئك خيار الناس، إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير مُتَعْتَع» (صححه الألباني في صحيح الجامع)

لم يرتض النبي صلى الله عليه وسلم موقف الصحابة مع أن ظاهره الأدب والدفاع عن الجناب النبوي، ومع الشدة التي مارسها صاحب الدين عليه، فقد كان نظره يرمي لتوجيه الصحابة لما هو أعمق من ذلك، وهو تقديس الحق في نظرهم، وتكوين العقلية المسلمة على أساس تعظيم الحقوق، والانتصار للضعيف حتى يأخذ حقه، فصاحب الحق وإن أغلظ القول فإن جانبه أقوى، فهو يستمد قوته من قوة الحق الذي يطالب به.

إن ترويض النفوس حتى تتقبل مرارة الحق، وغلظة المحق، كان ظاهراً في هذا التوجيه النبوي الرشيد، وقد تكرر منه ذلك، حتى تتربى النفوس على الإذعان للحق، والانتصار لصاحبه حتى يصل إليه، وهذا سبيل موصل إلى أمن المجتمع المسلم، وضمان حقوق أفراده، واستواء الجميع تحت مسؤولية الحقوق وسلطان العدالة.


وقد روى الترمذي عن أبي هريرة أن رجلا تقاضى -رسول الله صلى الله عليه وسلم-، فأغلظ له، فهمَّ به أصحابه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «دعوه فإن لصاحب الحق مقالا»، ثم قال: «اشتروا له بعيرا فأعطوه إياه»، فطلبوه فلم يجدوا إلا سنا أفضل من سِنِّه، فقال: «اشتروه فأعطوه إياه فإن خيركم أحسنُكم قضاءً»، قال أبو عيسى:هذا حديث حسن صحيح.

قد تدفعنا الميول العاطفية، أو العصبية القبلية، أو الانتماءات السياسية، إلى الوقوف مع من يشاركنا ببعض تلك الروابط بغير حق في أحايين كثيرة، بل مع الباطل الصراح أحيانا أخرى، وهذه أحد رواسب الجاهليات التي احتفظت بها بعض النفوس، وتدل على ضعف سلطة الحق على تلك النفوس، واختلال موازين العدل، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يمرِّر للصحابة هذا الموقف، مع إمكان القائل منهم أن يعتذر بما هو مقبول شرعا وعقلا؛ لكونه يذب عن مقام النبوة، ويدفع عن جناب الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن العاطفة الدينية لا تلغي حق أحد، ولا تسقط الاستحقاق، هكذا علمهم النبي صلى الله عليه وسلم.

إن هذا الحديث يؤسس لمبدأ عميق ودقيق، وهو دوران المسلم مع الحق في حال السخط والرضى، ومع القريب والبعيد، والموافق والمخالف، ولما كان التجرد لهذا مطلباً وعراً، فإنه يحتاج لمزيد من تطبيع النفس على رؤية الحق مجرداً عن النسبة والإضافة وجهة الاستحقاق، فالنفس يسهل عليها بذل الحق لمن ترضاه وتألفه، ولكن بذلها للحق أو قبولها له من المخالف البعيد لا تخضع له إلا النفوس التي ذلت لسلطان الحق، وتربَّت تحت سوط الإنصاف.

وهذا داخل حتى في إنكار المنكرات، فقد يتصدر لإنكاره على مخالفه، فإذا صدر نفس المنكر ممن هو أليفه وحليفه، تأول له النصوص، وحمل له الأعذار، وغض له الطرف، مع أن المنكر واحد وبنفس السياق والملابسات.
ويتصل هذا التوجيه النبوي حتى في المناظرات المعرفية، ومقامات الحجاج العلمي، فالمرء مؤتمن على إبراز الحق متجرداً عن هوى نفسه وميل طبعه، ولك أن تتأمل معي تلك الشفافية العلمية التي عبر عنها العلامة المعلمي ـ رحمه الله ـ حيث يقول: "وبالجملة، فمسالك الهوى أكثر من أن تحصى! وقد جربتُ نفسي أنني ربما أنظر في القضية زاعماً أنه لا هوى لي، فيلوح لي فيها معنى، فأقرره تقريراً يعجبني، ثم يلوح لي ما يخدش في ذاك المعنى، فأجدني أتبرم بذاك الخادش، وتنازعني نفسي إلى تكلف الجواب عنه وغض النظر عن مناقشة ذاك الجواب، وإنما هذا لأني لما قررتُ ذاك المعنى أولاً تقريراً أعجبني صرتُ أهوى صحتَه، هذا مع أنه لا يعلم بذلك أحدٌ من الناس، فكيف إذا كنتُ قد أذعته في الناس، ثم لاح لي الخدش؟ فكيف لولم يلُح لي الخدش ولكن رجلاً آخر أعترض علي به؟! فكيف إذا كان المعترض ممن أكرهه؟!" أ.هـ

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة