الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مثل الذين يأكلون الربا

مثل الذين يأكلون الربا

مثل الذين يأكلون الربا

ضرب الله الأمثال في القرآن الكريم للناس جميعاً؛ لتذكِّرهم بخالقهم، وتعظهم في درب حياتهم، بما تحمل من تصوير وتجسيد للنماذج والتجارب البشرية المتنوعة، وبما تقدم من الأدلة التي تهدي إلى الحق المبين، وبما تقيم من البراهين التي ترشد إلى الطريق المستقيم.

ومن الأمثلة القرآنية التي ضربها الله للناس؛ حفظاً لأموال الأمة، أفراداً وجماعات، قوله تعالى: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} (البقرة:275).

فقد ضرب الله في هذه الآية الكريمة صورة لآكلي الربا، وما كان لأي تهديد معنوي ليبلغ إلى الحس ما تبلغه هذه الصورة المجسمة الحية المتحركة، إنها صورة مهزوزة، يحركها دافع شيطاني، بل يحركها الشيطان نفسه، بحيث إن المرابين لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم الذي يصرعه الشيطان من الجنون، وهذه هي علامة آكلي الربا التي يعرفون بها يوم القيامة.

فهذا المثل يبين سوء منقلب أَكَلة الربا يوم القيامة، وشدة مآلهم في الآخرة، وأنهم لا يقومون من قبورهم ليوم نشورهم {إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} أي: يصرعه الشيطان بالجنون، فيقومون من قبورهم حيارى سكارى مضطربين، متوقعين لعظيم النكال، وعسر الوبال.

وهذا المثل القرآني، يستحضر هذه الصورة لتؤدي دورها الإيحائي في إفزاع الحس؛ لاستجاشة مشاعر المرابين، وهزها هزة عنيفة، تخرجهم من مألوف عادتهم في نظامهم الاقتصادي؛ ومن حرصهم على ما يحققه لهم من فوائد آنية. وهي وسيلة في التأثير التربوي ناجعة نافعة. وهي في الوقت نفسه تعبر عن حقيقة واقعة.

وقد مضت معظم التفاسير على أن المقصود بـ (القيام) في هذه الصورة المفزعة، هو القيام يوم البعث والنشور. ولكن هذه الصورة -فيما يرى سيد قطب- واقعة بذاتها في حياة البشرية اليوم. وهي تتفق مع ما سيأتي بعدها من الإنذار بحرب من الله ورسوله، {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} (البقرة:279). ونحن نرى اليوم هذه الحرب واقعة وقائمة، ومسلطة على البشرية جمعاء، التي تتخبط كالممسوس جراء النظام الربوي الذي يحكم ويتحكم في أكثر المعاملات المالية العالمية اليوم.

وواقع الأزمة الاقتصادية العالمية التي تمر بها الأنشطة الاقتصادية اليوم بسبب الربا والمرابين، يشهد لذلك؛ حيث إنهم لما انسلبت عقولهم في طلب الأموال الربوية، خفت أحلامهم، وضعفت آراؤهم، وصاروا في هيئتهم وحركاتهم يشبهون المجانين في عدم انتظامها، وتخبطها في أمرها، فهم لا يقومون في الحياة، ولا يتحركون إلا حركة الممسوس المضطرب القلق المتخبط، الذي لا ينال استقراراً ولا طمأنينة ولا راحة.

إن الوضع الاقتصادي العالمي الذي تعيشه البشرية اليوم، يتسم بالقلق والاضطراب والخوف؛ والأمراض العصبية والنفسية، وهذا باعتراف عقلاء أهله ومفكريه وعلمائه ودارسيه، وبمشاهدات المراقبين والزائرين والعابرين لأقطار الغرب. وذلك على الرغم من كل ما بلغته الحضارة المادية، والإنتاج الصناعي من تقدم وازدهار. وعلى الرغم من كل مظاهر الرخاء المادي التي تأخذ بالأبصار. ثم هو -قبل ذلك وبعده- عالم الحروب الشاملة، والتهديد الدائم بالحروب المبيدة، وحرب الأعصاب، والاضطرابات التي لا تنقطع هنا وهناك!

ومن المفيد أن نذكر في هذا السياق، أن عدداً من الاقتصاديات العالمية بعد الأزمة المالية الأخيرة قد أخذت تعيد النظر في نظامها الاقتصادي القائم على الربا، وبدأت تدرس إمكانية تطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي الخالي من الربا، وفي ذلك خير معتبَرٍ، لمن أراد أن يعتبر، {فاعتبروا يا أولي الأبصار} (الحشر:2).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة