الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ما ننسخ من آية

ما ننسخ من آية

ما ننسخ من آية

في سياق بيان القرآن لموقف أهل الكتاب والمشركين الذين لا يرغبون الخير للمسلمين، جاء قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} (البقرة:106)، يتعلق بهذه الآية المسائل التالية:

المسألة الأولى: في حقيقة النسخ:

النسخ في كلام العرب على وجهين:

أحدهما: النقل، كنقل كتاب من آخر، وعلى هذا يكون القرآن كله منسوخاً، أي من اللوح المحفوظ، وإنزاله إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وهذا لا مدخل له في هذه الآية، ومنه قوله تعالى: {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} (الجاثية:29)، أي: نأمر بنسخه وإثباته.

الثاني: الإبطال والإزالة، وهو المقصود هنا، وهو منقسم في اللغة إلى قسمين: الأول: إبطال الشيء وزواله وإقامة آخر مقامه، ومنه نسختِ الشمس الظل: إذا أذهبته وحلت محله، وهو معنى قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها}. الثاني: إزالة الشيء دون أن يقوم آخر مقامه، كقولهم: نسخت الريح الأثر، ومن هذا المعنى قوله تعالى: {فينسخ الله ما يلقي الشيطان} (الجاثية:29)، أي: يزيله فلا يتلى ولا يثبت في المصحف بدله.

وتأسيساً على ما تقدم، عرَّف العلماء (النسخ) بأنه: إزالة ما قد استقر من الحكم الشرعي بخطاب شرعي متأخر، بمعنى أن ينـزل حكم شرعي، ثم يأتي حكم آخر ينسخ الحكم المتقدم.

المسألة الثانية: الذي عليه جمهور العلماء أن (النسخ) إنما هو مختص بالأوامر والنواهي، وأن الأخبار لا يدخلها النسخ لاستحالة الكذب على الله تعالى.

المسألة الثالثة: قد يرد في الشرع أخبار ظاهرها الإطلاق والاستغراق، ويرد تقييدها في موضع آخر، فيرتفع ذلك الإطلاق، كقوله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} (البقرة:186)، فهذا الحكم ظاهره خبر عن إجابة كل داع على كل حال، لكن قد جاء ما قيده في موضع آخر، كقوله سبحانه: {فيكشف ما تدعون إليه إن شاء} (الأنعام:41)، فقد يظن البعض أن هذا من باب النسخ في الأخبار، وليس كذلك، بل هو من باب الإطلاق والتقييد، بمعنى أن قوله سبحانه: {فيكشف ما تدعون إليه إن شاء} مقيد لإطلاق قوله سبحانه: {أجيب دعوة الداع إذا دعان}، وليس ناسخاً له.

المسألة الرابعة: يكون نسخ الحكم من الأثقل إلى الأخف، كنسخ قوله تعالى: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا} (الأنفال:65)، حيث نُسخ هذا بقوله سبحانه: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله} (الأنفال:66).

ويكون نسخ الحكم الأخف إلى الأثقل، كتحريم الخمر والميسر كان أشق على الناس يوم حُرِّم من إباحتهما، وقد جاء التحريم في قوله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} (المائدة:90)، بعد قوله سبحانه: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا} (النحل:67)، قال ابن عباس: نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر. وقال ابن العربي: "الصحيح أن ذلك كان قبل تحريم الخمر، فتكون منسوخة، فإن هذه الآية مكية باتفاق العلماء، وتحريم الخمر مدني".

ويكون نسخ الحكم بمثله ثقلاً وخفة، كنسخ القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام، في قوله تعالى: {فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام} (البقرة:144). وينسخ الشيء لا إلى بدل، كصدقة النجوى، كما قال تعالى: {إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم * أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله} (المجادلة:12).

وينسخ القرآن بالقرآن، كما تقدم معنا من أمثلة. وجمهور الأئمة على أن القرآن يُنسخ بالسنة، وذلك موجود في قوله عليه السلام: (لا وصية لوارث)، فهذا ناسخ لقوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف} (البقرة:180)، روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس). وأيضاً، فإن الجَلْدَ ساقط في حد الزنى عن الثيب الذي يرجم، ولا مسقط لذلك إلا السنة فعل النبي صلى الله عليه وسلم. والسنة أيضاً تُنسخ بالقرآن وذلك موجود في القبلة، فإن الصلاة إلى الشام لم تكن في كتاب الله تعالى، بل أخبرت ذلك السنة.

قال العلماء: والنسخ في القرآن على أنواع:

- فيكون نسخ الحكم دون التلاوة، ومثاله صدقة النجوى، في قوله سبحانه: {إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم * أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله }.

- ويكون نسخ التلاوة دون الحكم، كآية الرجم، وهي: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة)، فقد روى ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، قال: (لقد خشيت أن يطول بالناس زمان، حتى يقول قائل: ما أجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة من فرائض الله، ألا وإن الرجم حق إذا أُحصن الرجل، وقامت البينة، أو كان حمل، أو اعتراف، وقد قرأتها: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة) رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده) رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.

- وقد يكون نسخ التلاوة والحكم معاً، ومنه قول الصديق رضي الله عنه: كنا نقرأ: (لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر)، متفق عليه، ومثله كثير.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة