الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

وأحل الله البيع

وأحل الله البيع

وأحل الله البيع

البيع من المعاملات الأساسية في حياة البشر، وهو حاجة من حاجتهم التي لا تستقيم أمور حياتهم إلا بالتعامل به، وقد نص سبحانه في محكم كتابه على حلية هذا النوع من المعاملات، فقال جل شأنه: {وأحل الله البيع} (البقرة:175) وقفتنا تالياً مع ما تفيده هذه الآية من أحكام، نبسطها في المسائل التالية:

المسألة الأولى: البيع مصدر باع يبيع، وهو من حيث الأصل اللغوي تمليك مال بمال بإيجاب وقبول عن تراض من طرفي العقد؛ أي: دَفْعُ عوضٍ، وأخذ مُعَوَّض. وهو يقتضي بائعاً، وهو المالك، ومبتاعاً، وهو الذي يبذل الثمن، ومبيعاً، وهو المثمون، وهو الذي يُبْذَل في مقابلته الثمن. وعلى هذا، فأركان البيع أربعة: البائع، والمبتاع، والثمن، والمثمن.

المسألة الثانية: المعاوضة عند العرب تختلف بحسب اختلاف ما يضاف إليها؛ فإن كان أحد المعوضين في مقابلة الرقبة، سُمي بيعاً، وإن كان في مقابلة منفعة رقبة؛ فإن كانت منفعة بضع، سُمي نكاحاً، وإن كانت منفعة غيرها، سُمي إجارة، وإن كان عيناً بعين، فهو بيع النقد، وهو الصرف، وإن كان بدين مؤجل، فهو السَّلَم.

المسألة الثالثة: البيع قبول من طرف، وإيجاب من الطرف الآخر، يقع باللفظ المستقبل والماضي؛ فالماضي فيه حقيقة، والمستقبل كناية، ويقع بالصريح، والكناية المفهوم منها نَقْلُ الملك. فسواء قال: بعتك هذه السلعة بعشرة، فقال: اشتريتها، أو قال المشتري: اشتريتها، وقال البائع: بعتكها، أو قال البائع: أنا أبيعك بعشرة، فقال المشتري: أنا أشتري، أو قد اشتريت، وكذلك لو قال: خذها بعشرة، أو أعطيتكها، أو دونكها، أو بورك لك فيها بعشرة، أو سلمتها إليك -وهما يريدان البيع- فذلك كله بيع لازم.

المسألة الرابعة: الألف واللام في قوله سبحانه {البيع} للجنس لا للعهد؛ إذ لم يتقدم بيع مذكور يُرجع إليه، وإذا ثبت أن البيع عام، فهو مخصص بما نُهِيَ عنه، ومنع العقد عليه، كالخمر، والميتة، وبيع الثمر قبل نضجه، وغير ذلك، مما هو ثابت في السنة وإجماع الأمة النهي عنه. ولا خلاف بين أهل العلم أن هذه الآية، وإن كان مخرجها مخرج العموم، فقد أُريد به الخصوص؛ لأنهم متفقون على حظر كثير من البيوع، نحو بيع ما لم يقبض، وبيع ما ليس عند الإنسان، وبيع الغرر والمجاهيل، وعقد البيع على المحرمات من الأشياء، وقد كان لفظ الآية يوجب جواز هذه البيوع، وإنما خُصت منها بأدلة، إلا أن تخصيصها غير مانع اعتبار عموم لفظ الآية فيما لم تقم الدلالة على تخصيصه. وهذا مذهب أكثر الفقهاء.

قال الشافعي: احتمل إحلال الله البيع، معنيين:

أحدهما: أن يكون أحل كل بيع تبايعه المتبايعان، جائزي الأمر فيما تبايعاه عن تراض منهما. وهذا أظهر معانيه.

الثاني: أن يكون الله أحل البيع: إذا كان مما لم ينه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، المبين عن الله عز وجل معنى ما أراد. فيكون هذا من الجملة التي أحكم الله فرضها بكتابه، وبين كيف هي على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. أو من العام الذي أراد به الخاص، فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أريد بإحلاله منه، وما حرم، أو يكون داخلاً فيهما. أو من العام الذي أباحه، إلا ما حرم على لسان نبيه منه، وما في معناه. وأي هذه المعاني كان، فقد ألزمه الله خلقه، بما فرض من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيوع تراضى بها المتبايعان، استدللنا على أن الله أراد بما أحل من البيوع ما لم يدل على تحريمه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، دون ما حرم على لسانه.

المسألة الخامسة: كل ما كان من حرام بيِّن، ففُسخ، فعلى المبتاع رد السلعة بعينها؛ فإن تلفت بيده، رد القيمة فيما له القيمة، وذلك كالعقار والعروض والحيوان، والمثل فيما له مثل من موزون، أو مكيل من طعام، أو عَرَض.

المسألة السادسة: لو قال البائع: بعتك بعشرة، ثم رجع قبل أن يقبل المشتري، فقد قال مالك: ليس له أن يرجع حتى يسمع قبول المشتري، أو رده؛ لأنه قد بذل ذلك من نفسه، وأوجبه عليها، وقد قال ذلك له؛ لأن العقد لم يتم عليه. ولو قال البائع: كنت لاعباً، فقد اختلفت الرواية عن مالك، فقال مرة: يلزمه البيع، ولا يُلتفت إلى قوله. وقال مرة: يُنظر إلى قيمة السلعة؛ فإن كان الثمن يشبه قيمتها، فالبيع لازم، وإن كان متفاوتاً، كدار بدينار، عُلِم أنه لم يرد به البيع، وإنما كان هازلاً، فلم يلزمه.

المسألة السابعة: بيوع الآجال، وهي بيوع ظاهرها الجواز، لكنها تؤدي إلى ممنوع، ومن ثم منع جمهور الفقهاء بيع ما كثر قصد الناس إليه، توصلاً إلى الربا الممنوع، كأن كان جائزاً في الظاهر؛ وذلك للتهمة، وسد الذريعة، ومثلوا لها: باجتماع بيع وسلف، أو سلف جر منفعة، وكبيع العِينة، وهو أن يبيع شيئاً من غيره بثمن مؤجل، ويسلمه إلى المشتري، ثم يشتريه البائع قبل قبض الثمن بثمن نقد أقل من الثمن الذي باعه به. وسميت هذه المبايعة عينة؛ لحصول النقد لصاحب العِينة؛ لأن العين هو المال الحاضر، والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضرة تصل إليه من فوره، ليصل به إلى مقصوده. وأجاز الشافعية هذا النوع من البيع، مستدلين على الجواز بما وقع من ألفاظ البيع؛ ولأنه ثمن يجوز بيعها به من غير بائعها، فجاز من بائعها، كما لو باعها بثمن المثل.

المسألة الثامنة: من البيوع المنهي عنها: بيع الغرر، وبيع الملامسة، والمنابذة، والحصاة، وبيع الثنيا، وبيع العُرْبَان، وما ليس عند البائع، والمضامين، والملاقيح، وحَبَل الحَبَلة، وبيع الثمار قبل بدوِّ صلاحها، وبيع السنبل حتى يشتد، والعنب حتى يسود، وبيع ما لم يقبض، وربح ما لم يضمن، والخمر والميتة وشحومها، وثمن الدم، وبيع الأصنام، وعسب الفحل، وكسب الحجام، ومهر البغي، وحلوان الكاهن، وبيع المضطر، والنجش، وبيع الرجل على بيع أخيه، وبيع الحاضر للباد، وتلقي السلع. قال ابن العربي: "وهي -أي: البيوع المنهي عنها- ترجع في التقسيم الصحيح إلى سبعة أقسام: ما يرجع إلى صفة العقد، وما يرجع إلى صفة المتعاقدين، وما يرجع إلى العوضين، وإلى حال العقد، والسابع وقت العقد، كالبيع وقت نداء يوم الجمعة، أو في آخر جزء من الوقت المعين للصلاة. ولا تخرج عن ثلاثة أقسام؛ وهي الربا، والباطل، والغرر".

المسألة التاسعة: احتج الحنفية بقوله تعالى: {وأحل الله البيع} على جواز بيع ما لم يره المشتري، وأن من اشترى حنطة بحنطة بعينها متساوية أنه لا يبطل بالافتراق قبل القبض؛ ودليل الجواز عندهم أنه معلوم من ورود اللفظ لزوم أحكام البيع وحقوقه من القبض، والتصرف، والملك، وما جرى مَجرى ذلك، فاقتضى ذلك بقاء هذه الأحكام مع ترك التقابض.

المسألة العاشرة: ذهب الحنفية إلى أن كل ما طرأ على عقد البيع قبل القبض مما يوجب تحريمه، فهو كالموجود في حال وقوعه، وما طرأ بعد القبض مما يوجب تحريم ذلك العقد، لم يوجب فسخه؛ كما لو اشترى رجل مسلم صيداً ثم أحرم البائع، أو المشتري بطل البيع؛ لأنه قد طرأ عليه ما يوجب تحريم العقد قبل القبض. وإن كان الصيد مقبوضاً، ثم أحرما لم يبطل البيع.

المسألة الحادية عشرة: ذهب الحنفية والشافعية إلى أن هلاك المبيع في يد البائع، وسقوط القبض فيه، يوجب بطلان العقد، وقال مالك: لا يبطل البيع، والثمن لازم للمشتري إذا لم يمنعه مانع.

المسألة الثانية عشرة: مذهب الحنفية أن العقود الواقعة في دار الحرب بين أهل الحرب وبين المسلمين، إذا ظهر عليها الإمام، لا يُفسخ منها ما كان مقبوضاً، قالوا: وقوله تعالى: {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف} يدل على ذلك؛ لأنه قد جعل له ما كان مقبوضاً منه قبل الإسلام؛ وذلك يدل على أن بيوع أهل الحرب كلها ماضية، إذا أسلموا بعد التقابض فيها.

ومسائل البيع كثيرة ومتفرعة، يُرجع في تفصيلها إلى كتب الفقه، فثمة مكانها.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة