الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

طاقة التحمل

طاقة التحمل

طاقة التحمل

كلما تأمل المرء في أسرار التشريع وفي طبائع الأشياء ظهر له جليًّا أن بارئ الخليقة ومرسل الرسل ومنزّل الكتب واحد جل شأنه-؛ وأظن أننا كلما امتلكنا رؤية أعمق وأشمل لتاريخنا وواقعنا ظهرت حاجتنا إلى أن نعمل في ظلال هدي الشريعة الغراء وفي إطار (طاقة التحمل) على كل الصعد التي تعرفنا على سنن الله في الخلق في مسائلها وقضاياها، وذلك حتى لا نهدم ونحن نريد البناء، ولا نُفسد ونحن نريد الإصلاح.

في الإمكان أن نقول: إن كل شيء تحمَّله فوق طاقته فإنك تخسره، أو تكاد.
وخسارتنا لما نحمَّله فوق طاقته أشكال وألوان.. فقد تتجلى الخسارة في فقده وانعدامه، كما لو ضغطنا على كأس زجاج رقيق أكثر من طاقته على الاحتمال.

وقد تتجلى الخسارة في فقده لوظيفته مع بقاء مادته، كما لو حمّل مهندس بناء حديد التسليح في عمارة ينشئها أوزاناً فوق الأوزان التي يتحملها عادة؛ مما يؤدي إلى انهيار البناء بسبب اعوجاج الحديد.

وتتمثل الخسارة في بعض الأحيان لهذا الذي نحمَّله فوق طاقته في فقد فاعليته، أي أنه يؤدي عمله لكن على غير الوجه المطلوب، كما أن النتائج تكون أقل من المتوقع.إنك لا تستطيع أن تحمَّل مركبة ضعف حمولتها العادية، ثم تسرع بها كما يسرع الذي يقود مركبة تحمل حمولة عادية.

وقد تتجسَّد الخسارة في عدم القدرة على الاستمرار في السعي إلى آخر الطريق كالمسافر الذي يتناول ما لديه من طعام وشراب على نحو مسرف، فإنه سيجد نفسه في مرحلة من المراحل عاجزاً عن متابعة المسير بسبب تحميله لزاده ما لا يحتمل من الاستهلاك، وكالذي يحمَّل بدنه ما لا يحتمل بإطلاق العنان لشهواته، فيجد نفسه هرماً قبل الأوان. وهناك أنواع أخرى للخسارة.

أدلة كثيرة
إن لدينا الكثير من النصوص التي تؤكد مراعاة الشريعة لهذا المبدأ العظيم، منها قوله سبحانه: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}[سورة البقرة: 286]، وقوله: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}[سورة الحج: 78]، وقوله: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}[سورة البقرة: 185]، وقوله: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم}[سورة النساء: 148]، وقوله: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة}[سور النساء: 129].

وقال عليه الصلاة والسلام: [لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك مع الوضوء، ولأخرت العشاء إلى نصف الليل]، وقال لعائشة- رضي الله عنها-: [لولا حداثة قومك بكفر لنقضت البيت، فبنيتُه على أساس إبراهيم، وجعلتُ له خلفاً فإن قريشاً لما بنت البيت استقصرت].
إنه لا يريد أن يحمّل إيمان قريش الغضّ أكثر مما يحتمل، ولذلك امتنع عن ذلك العمل الذي قد يهيجهم، ويدفعهم إلى الاستنكار.

إن الشريعة راعت حال المكلفين وقدرتهم على النهوض بحقوق الالتزام، ولهذا فليس في ديننا -بحمد الله- ما يشقّ اعتقاده أو يشقّ عمله. وحين يعيش المسلم في ظروف خاصة أو طارئة فإن الشريعة تلمح ذلك، وتجنح به إلى الرخصة والتيسير، وصار من القواعد الفقهية المشهورة أن الأمر كلما ضاق اتسع. وفلسفة الرخصة في الإسلام تقوم على أن التخفيف في التكليف يساعد المسلم على أن يبقى في إطار الاستجابة لأمر الله، وفي إطار الشعور بالقيام بحقوق العبودية عوضاً عن الشعور بالضيق والمشقة والحرج والسعي إلى التماس الأعذار للتقصير والإعراض عن أمر الله بالكلية. ومن هنا كانت رخصة قصر الصلاة وجمعها للمسافر، وجواز التيمم في ظروف معينة، وجواز الإفطار في رمضان للمريض والمسافر، ورفع القلم عن النائم والمجنون والطفل، والإعذار بالجهل في الكثير من المواطن، وعدم المؤاخذة بما لا يستطيعه المسلم من العدل بين نسائه في المحبة والأنس والاستمتاع.

ولدينا العديد من النصوص التي توجه المسلم إلى ألاّ يحمَّل نفسه مالا يطيق حتى لا يقع في شكل من أشكال الخسارة التي أشرنا إليها. وهي نصوص كثيرة في الحقيقة، منها ما رواه الشيخان من قوله - صلى الله عليه وسلم -: [إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم؛ فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري يذهب يستغفر؛ فيسب نفسه].
إن الخسارة هنا واضحة فحمل النفس على العبادة مع شدة النعاس، قد يؤدي إلى عكس المقصود، فيدعو المرء على نفسه عوضاً من الاستغفار.
وقال عليه الصلاة والسلام: [لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه. قالوا: وكيف يذل نفسه؟!. قال: يتعرض من البلاء مالا يطيق].

بين الكم والكيف
بين الكم والكيف علاقة عكسية، وفي معظم إن لم نقل جميع- الحالات لا يكون الكم إلا على حساب الكيف، كما لا يكون الكيف إلا على حساب الكم، نعم يمكن نقض هذه العلاقة إذا كانت أعمارنا وطاقاتنا وأموالنا غير محدودة، وأنى لنا بهذا؟

حين يعرّض المسلم نفسه لابتلاءات قاسية فإنه يضع نفسه على حافة الخطر حيث لا ضمانة لصبره على ما جرّه لنفسه من البلاء، ولا ضمانة لنجاحه في الاختبار الصعب الذي قرر الدخول فيه. وقد رأينا الكثير الكثير من ذوي القلوب الطيبة وقد نكثوا على أعقابهم نتيجة الذل الذي صاروا إليه بسبب تحميلهم لأنفسهم ما لم يحملهم الله - تعالى - إياه، وكانت النتيجة أنهم انتهوا إلى لا شيء: لا كم ولا كيف!

إن المثابرة إحدى الفضائل الإسلامية، وهي لا تكون أبداً إلا إذا جعلنا أنشطتنا في إطار طاقاتنا، وإلا إذا تجنبا إرهاق الأنفس.
تقول عائشة- رضي الله عنها: [دخل عليّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وعندي امرأة، قال: من هذه؟ قلت: فلانة تذكر من صلاتها- أي تتحدث عن كثرة صلاتها- فقال: مه. عليكم بما تطيقون، فوالله لا يملّ الله حتى تملوا، وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه].

وفي حديث مسلم عنه صلى الله عليه وسلم: [هلك المتنطعون] قالها ثلاثاً. والتنطع هو التعمق والتشدد في غير موضع تشديد.

الشريعة الغراء تدعو إلى اليسر لأنه من أهم منطلقاتها، ولأن التجربة أثبتت أن الإيغال في أي أمر يكون في الغالب على حساب أمور أخرى؛ ومن النادر أن ترى رجلاً صرف جل اهتمامه وعنايته لأمور معينة دون أن يقع في التفريط في أمور أخرى، لا تقل في أهميتها عما يبالغ في العناية به، فالكيف كما ذكرت لا يكون إلا على حساب الكم.
ومن الله الحول والطول.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة