أَلَا مَنْ لَهُ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ رَغْبَةٌ لِيَصْغَ بِقَلْبٍ حَاضِرٍ مُتَرَصِّدٍ ( أَلَا ) يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّمَنِّي كَقَوْلِ الشَّاعِرِ :
أَلَا عُمُرٌ وَلَّى مُسْتَطَاعٌ رُجُوعُهُ فَيَرْأَبَ مَا أَثْأَتْ يَدُ الْغَفَلَاتِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِلْعَرْضِ وَالتَّحْضِيضِ . قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ يُوسُفُ بْنُ هِشَامٍ النَّحْوِيُّ الْحَنْبَلِيُّ طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاهُ : وَمَعْنَى الْعَرْضِ وَالتَّحْضِيضِ طَلَبُ الشَّيْءِ ، وَلَكِنَّ الْعَرْضَ طَلَبٌ بِلِينٍ ، وَالتَّحْضِيضَ طَلَبٌ بِحَثٍّ .
وَتَخْتَصُّ أَلَا [ ص: 42 ] هَذِهِ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ نَحْوُ { أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } ؟ وَمِنْهُ عِنْدَ الْخَلِيلِ قَوْلُ الشَّاعِرِ :
أَلَا رَجُلًا جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا يَدُلُّ عَلَى مُحَصِّلَةٍ تَبِيتُ
وَالتَّقْدِيرُ : أَلَا تُرُونِي رَجُلًا هَذِهِ صِفَتُهُ ، فَحُذِفَ الْفِعْلُ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِالْمَعْنَى ، وَهَكَذَا فِي كَلَامِ النَّاظِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَالْمَعْنَى أَلَا يُوجَدُ ( مَنْ ) أَيْ إنْسَانٌ أَوْ الَّذِي ( لَهُ فِي ) اسْتِمَاعِ ( الْعِلْمِ ) وَطَلَبِهِ وَتَحْصِيلِهِ ، وَهُوَ صِفَةٌ يُمَيَّزُ الْمُتَّصِفُ بِهَا تَمَيُّزًا جَازِمًا مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ .
مَطْلَبٌ : مَرَاتِبُ الْعِلْمِ ثَلَاثٌ .
وَلَهُ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ :
الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى : ( عِلْمُ الْيَقِينِ ) وَهُوَ انْكِشَافُ الْمَعْلُومِ لِلْقَلْبِ بِحَيْثُ يُشَاهِدُهُ وَلَا يَشُكُّ فِيهِ كَانْكِشَافِ الْمَرْئِيِّ لِلْبَصَرِ . ثُمَّ يَلِيهَا الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ مَرْتَبَةُ ( عَيْنِ الْيَقِينِ ) وَنِسْبَتُهَا إلَى الْعَيْنِ كَنِسْبَةِ الْأُولَى لِلْقَلْبِ ، ثُمَّ تَلِيهَا الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ ، وَهِيَ ( حَقُّ الْيَقِينِ ) وَهِيَ مُبَاشَرَةُ الْمَعْلُومِ وَإِدْرَاكُهُ الْإِدْرَاكَ التَّامَّ .
فَالْأُولَى كَعِلْمِكَ أَنَّ فِي هَذَا الْوَادِي مَاءٌ ، وَالثَّانِيَةُ كَرُؤْيَتِهِ ، وَالثَّالِثَةُ كَالشُّرْبِ مِنْهُ .
وَمِنْ هَذَا قَوْلُ حَارِثَةَ { أَصْبَحَتْ مُؤْمِنًا حَقًّا ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً فَمَا حَقِيقَةُ إيمَانِك ؟ قَالَ عَزَفَتْ نَفْسِي عَنْ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا فَأَسْهَرْت لَيْلِي وَأَظْمَأْت نَهَارِي وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا ، وَإِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَعَاوَوْنَ فِيهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفْت فَالْزَمْ عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ } ذَكَرَهُ ابْنُ رَجَبٍ فِي اسْتِنْشَاقِ نَسِيمِ الْأُنْسِ وَقَالَ ضَعِيفٌ ، وَالْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ مُحْتَجًّا بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَ ) فِي حِفْظِ آدَابِ ( الدِّينِ ) وَالتَّخَلُّقِ بِهَا ( رَغْبَةٌ ) أَيْ إرَادَةٌ وَطَلَبٌ يُقَالُ رَغِبَ فِيهِ كَسَمِعَ رَغْبًا وَيُضَمُّ وَرَغْبَةً أَرَادَهُ كَارْتَغَبَ كَمَا فِي الْقَامُوسِ ، وَرَغِبَ عَنْهُ لَمْ يُرِدْهُ ، وَرَغِبَ إلَيْهِ ابْتَهَلَ إلَيْهِ أَوْ هُوَ الضَّرَاعَةُ وَالْمَسْأَلَةُ . وَالدِّينُ لُغَةً الْجَزَاءُ وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَمَاسَة :
وَلَمْ يَبْقَ سِوَى الْعُدْوَانِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا
وَالِانْقِيَادُ وَالْخُضُوعُ وَالْحِسَابُ وَالْعَادَةُ وَالْعَمَلُ وَالْحُكْمُ وَالْحَالُ وَالْخُلُقُ وَالطَّاعَةُ وَالْقَهْرُ وَالْمِلَّةُ وَالشَّرِيعَةُ وَالْوَرَعُ وَالسِّيَاسَةُ وَشَوَاهِدُ ذَلِكَ يَطُولُ [ ص: 43 ] ذِكْرُهَا ، وَفِي الْعُرْفِ وَضْعٌ إلَهِيٌّ سَائِقٌ لِذَوِي الْعُقُولِ الْمَحْمُودَةِ بِاخْتِيَارِهَا إلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهَا بِالذَّاتِ مِنْ أَمْرَيْ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ ، وَذَلِكَ الْوَضْعُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ طَرِيقًا مُوَصِّلًا إلَى النَّجَاةِ يُسَمَّى شَرِيعَةً ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ الطَّرِيقَةُ لِلْمَاءِ .
وَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مُجْتَمَعًا عَلَيْهِ يُسَمَّى مِلَّةً ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ الْجَمَاعَةُ ، وَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مُنْقَادًا إلَيْهِ يُسَمَّى دِينًا ( لِيَصْغَ ) اللَّامُ لِلْأَمْرِ ، وَيَصْغَ فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بِحَذْفِ حَرْفِ الْعِلَّةِ ، يُقَالُ أَصْغَى اسْتَمَعَ ، وَإِلَيْهِ مَالَ بِسَمْعِهِ ، وَأَصْغَى الْإِنَاءَ أَمَالَهُ ، وَصَغَى يَصْغُو وَيُصْغِي صَغْوًا ، وَصَغَى يُصْغِي صَغًا وَصَغْيًا مَالَ أَوْ مَالَ حَنَكُهُ ( بِقَلْبٍ ) مُتَعَلِّقٌ بِيَصْغَى ، وَالْقَلْبُ الشَّكْلُ الصَّنَوْبَرِيُّ فِي الْجَوْفِ ، وَالْمُرَادُ الْعَقْلُ وَاللُّبُّ ، مِنْ إطْلَاقِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِّ .
وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ { لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ } وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ مَمْلُوءَةٌ مِنْ ذَلِكَ ( حَاضِرٍ ) مُتَيَقِّظِ غَيْرِ غَائِبٍ ، فَإِنَّ مَنْ أَلْقَى سَمْعَهُ وَغَابَ قَلْبُهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِمَا يُلْقَى إلَيْهِ مِنْ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ . وَمِنْ ثَمَّ قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِكُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ النَّخَعِيِّ : " يَا كُمَيْلُ ، الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا لِلْخَيْرِ انْتَهَى .
فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ حَاضِرًا وَعَى مَا يُلْقَى إلَيْهِ .
وَفِي حَدِيثِ { جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَتْهُ الْمَلَائِكَةُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأُمَّتِهِ . وَقَوْلِ الْمَلَكِ لَهُ اسْمَعْ سَمِعَتْ أُذُنُكَ وَوَعَى قَلْبُك } . وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْعَقْلُ عَقْلًا لِعَقْلِهِ مَا يُلْقَى إلَيْهِ ، وَمِنْهُ عَقَلَ الْبَعِيرَ وَالدَّابَّةَ ، وَلِأَنَّهُ يَعْقِلُهُ عَنْ اتِّبَاعِ الْغَيِّ وَالْهَلَاكِ ، وَلِذَا سُمِّيَ حِجْرًا أَيْضًا لِأَنَّهُ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ كَمَا يَمْنَعُ الْحِجْرُ مَا حَوَاهُ .
فَعَقْلُ الشَّيْءِ أَخَصُّ مِنْ عِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ ; لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَعْقِلُ مَا عَلِمَهُ فَلَا يَدَعُهُ يَذْهَبُ . وَلِلْإِدْرَاكِ مَرَاتِبُ بَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ ، فَأَوَّلُهَا الشُّعُورُ فَالْفَهْمُ فَالْمَعْرِفَةُ فَالْعِلْمُ ثُمَّ الْعَقْلُ .
( مُتَرَصِّدِ ) أَيْ مُتَرَقِّبٍ حَافِظٍ . قَالَ فِي الْقَامُوسِ : رَصَدَهُ رَصْدًا وَرَصَدًا رَقَبَهُ كَتَرَصَّدَهُ ، فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ حَاضِرًا مُتَرَقِّبًا مَا يُلْقَى إلَيْهِ مُتَهَيِّئًا مُسْتَعِدًّا كَانَ أَقْرَبَ لِانْتِفَاعِهِ وَضَبْطِهِ لِمَا يُبْدِيهِ إلَيْهِ الشَّيْخُ ، بِخِلَافِ شَارِدِ الْقَلْبِ ذَاهِلِ اللُّبِّ فَلَا عِنْدَهُ اسْتِعْدَادَ ، لِأَنَّهُ فِي وَادٍ وَقَلْبُهُ فِي وَادٍ .
|